قبل أشهر من تفشي وباء كورونا المستجد، كانت تركيا تجاهد من أجل تفادي أزمة بالعملة، حيث استنفذت مليارات الدولارات من احتياطيات النقد الأجنبي لدعم الليرة التركية. والآن، يهدد تفشي الوباء بدفع تركيا إلى أزمة ضخمة بميزان المدفوعات، وهو ما سيؤدي الى مواجهة الرئيس رجب طيب أردوغان لواحد من أكبر التحديات على مدار حكمه الذي استمر 18 عامًا.
في تركيا، تسبب الوباء في زيادة معدلات البطالة ويهدد بارتفاع جامح لمعدلات التضخم. ومثلما يحدث في الأسواق الناشئة الأخرى، تتعرض تركيا أيضًا لإجراءات الإغلاق الجزئي والتي لا تزال سارية في الاتحاد الأوروبي والذي يعد سوقها الرئيسي لتصدير السيارات والمنسوجات، حيث تسبب تراجع الطلب في سلسلة من التوابع السلبية.
ولكن تراجع الليرة التركية إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق مقابل الدولار في الأسبوع الماضي، يشير إلى أن إدارة أردوغان تواجه مشكلة أكبر. وكشف انخفاض الليرة منذ بداية العام كيف كانت البلاد بالفعل في وضع مالي محفوف بالمخاطر مع بدء أزمة وباء كورونا، بعد فشل الحكومة في تقليل الأحجام الضخمة لديون الشركات بالعملات الأجنبية واعتمادها على المستثمرين الأجانب لتمويلها.
يقول الاقتصاديون إنه مع إضافة تأثير الوباء على هذه المشكلات السابقة، أصبحت تكلفة اقتراض تركيا من الخارج باهظة. وهذا الأمر يزيد من احتمالات أن تقوم الحكومة بالخطوة التي رفضها أردوغان مراراً، وهي إما فرض ضوابط على رؤوس الأموال أو طلب مساعدة من صندوق النقد الدولي.
قال ريفت جوركايناك، أستاذ الاقتصاد في جامعة بيلكنت في أنقرة: "أنا متأكد تمامًا من أننا سينتهي بنا الأمر الى هذا الخيار في نهاية المطاف". "ليس لأن هذا سيكون أفضل من الخيارات الأخرى، ولكن لأنه سيتضح لنا أنها الطريقة الوحيدة لإصلاح الأمور."
وقال أردوغان إن تركيا تتعرض لهجوم من قبل قوى أجنبية، وكان المتحدث باسمه قد صرح الشهر الماضي إن اللجوء إلى صندوق النقد الدولي للمساعدة ليس على جدول الأعمال، وأشار أردوغان في خطاب تم بثه تلفزيونيا يوم الاثنين الماضي: "نحن على دراية تامة بالفخاخ التي يتم وضعها لاقتصادنا"، وأضاف "نحن ندرك الأهداف الخفية التي تقف وراءها"
قالت هيئة التنظيم والرقابة المصرفية في تركيا، والتي تم منحها مؤخرًا سلطات متزايدة لمقاضاة حالات التلاعب بالسوق ونشر معلومات مضللة، يوم الثلاثاء إنها رفعت حظرًا على المعاملات بالليرة والتي كانت فرضتها على ثلاثة بنوك أجنبية الأسبوع الماضي. لكن نائب رئيس الهيئة التنظيمية، إرهان شيتينكايا، قال إن البنوك الثلاثة، سيتي جروب (Citigroup Inc.)، ويو بي إس جروب (UBS Group AG)، وبي إن بي باريبا (BNP Paribas) لا تزال تخضع للتحقيق. ورفض مسؤولون بالبنوك التعليق.
عندما سجلت الليرة أدنى مستوى تاريخي لها يوم الخميس 7 مايو، سجل الدولار أمريكي 7.26 ليرة، حسب بيانات السوق من Refinitiv. انتعشت الليرة قليلا منذ ذلك الحين، لكنها لا تزال أضعف مما كانت عليه في بداية العام بنسبة 15%.
مثل ما حدث في العديد من البلدان حول العالم، قلصت تركيا نشاطها التجاري في منتصف شهر مارس للمساعدة في احتواء انتشار الفيروس، مما أدى إلى تدهور قطاعات كبيرة من اقتصادها. ومع الخروج التدريجي من حالة الاغلاق بالعديد من الأسواق الكبرى التي تقوم تركيا بالتصدير اليها، والتوقف التام للسياحة، وهي مصدر رئيسي للعملة الأجنبية، يتوقع المحللون أن يتقلص الناتج الاقتصادي بنسبة 5% على الأقل في الربعين الثاني والثالث من العام الحالي. ومن المنتظر أن يرتفع معدل البطالة خاصة بين الشباب، وكان قد سجل 13.5% في ديسمبر.
وفي أنطاليا - واحدة من المدن السياحية الرئيسية في تركيا - امتد تأثير غياب السياح على جميع قطاعات الاقتصاد المحلي، من أصحاب الفنادق إلى المزارعين إلى شركات البناء. ويقول بينار كايا، مدير التسويق في فنادق ومنتجعات كايا في أنطاليا: "كان علينا تسريح بعض موظفينا، ولا نتوقع كسب أي أموال هذا العام. الهدف هو البقاء على قيد الحياة فقط. "
وتشير استطلاعات الرأي الى أن الأزمة قد لا يكون لها تأثير مباشر على مكانة أردوغان السياسية، فقد تجاوز العديد من الأزمات، من الركود الاقتصادي في عام 2009 إلى الانقلاب الفاشل في عام 2016 إلى الهزائم الضخمة في الانتخابات البلدية في العام الماضي، وعلى الرغم من قيامه بتكثيف الحملة على المعارضة، إلا أنه لا يزال السياسي الأكثر شعبية في تركيا. وإذا ساءت الأوضاع الاقتصادية، فإنه سيلقي اللوم على وباء كورونا.
وقال إبراهيم أوسلو، رئيس وكالة استطلاع الآراء ANAR ومقرها أنقرة: "لقد خلق هذا الوباء فرصة بدلاً من أزمة للرئيس، ففي تركيا ، لن يتساءل أحد لماذا لم يتمكن من الوفاء بوعوده."
أقر بعض ممن يعملون بإدارة أردوغان بأن تركيا يمكن أن تستعين ببعض المساعدات المالية. وقالوا إن تركيا أجرت محادثات مع الولايات المتحدة بشأن الحصول على تمويل بالدولار من خلال قرض قصير الأجل من الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي.
لكن المحللين قالوا إن الولايات المتحدة ستكون مترددة في تقديم مساعدة مالية كبيرة لتركيا طالما لم يتم حل التوترات الناجمة عن قرار أنقرة بشراء نظام الدفاع الجوي إس -400 من روسيا.
وحث البيت الأبيض والكونجرس تركيا على عدم استخدام الأنظمة الروسية، قائلين إنها ستعرض سبل التعاون بين عضوي حلف شمال الأطلسي للخطر، وتهدد أنقرة بفرض عقوبات مباشرة.
قال سفير الولايات المتحدة في تركيا، ديفيد ساترفيلد، في مؤتمر صحفي عقد مؤخرا، أن الإقراض قصير الأجل من مجلس الاحتياطي الفيدرالي هو من الأمور المالية وليست السياسية. ورفض متحدث باسم الاحتياطي الفيدرالي التعليق.
وفي استعراض واضح للولايات المتحدة، أجلت تركيا إلى أجل غير مسمى تفعيل نظام S-400، كما أرسل إردوغان برسالة إلى الرئيس ترامب مرفقا بشحنات جوية من المساعدات الطبية التركية إلى الولايات المتحدة، أعرب فيها عن أمله في أن يتعاون الزعيمان في حلول لإصلاح الاقتصاد العالمي.
لجأت تركيا إلى صندوق النقد الدولي في عام 2001 بعد أن عانت من أزمة مالية، وذلك قبل تولي أردوغان السلطة، ويُنظر إلى خطة الإنقاذ التي تلت برنامج الصندوق كنموذج للتحول الناجح.
ولكن استمر أردوغان في التقليل من دور الصندوق في انتعاش تركيا، وبدلاً من ذلك يعزى الفضل في بناء تركيا الى قيادته الخاصة وليس للقوى الخارجية. عندما انتهى برنامج صندوق النقد الدولي في عام 2008، حدد الزعيم التركي بعد ذلك هدفًا لدفع الأمة التي يبلغ عدد سكانها 83 مليون نسمة إلى أن تصبح من أكبر 10 اقتصادات في العالم.
وبتشجيع من أردوغان، الذي أطلق مشاريع بنية تحتية ضخمة، مثل مطار إسطنبول الجديد، قامت الشركات التركية بالحصول على قروض بالعملات الأجنبية في بداية العقد الماضي.
أخطئت هذه الاستراتيجية هدفها في صيف 2018 عندما عانت الليرة من تدفقات بيعية وازدادت أعباء الديون بالعملة المحلية وأصبحت فجأة أكثر صعوبة. وانخفضت تركيا، التي كانت تحتل المرتبة السابعة عشرة بين اقتصادات العالم في عام 2008، إلى المرتبة 19 في عام 2018، وفقًا لبيانات البنك الدولي.
ويقول خبراء اقتصاديون إن الخطوة نحو الديون الخارجية ستتسبب الآن في المزيد من المعاناة بعد أن تم تجديد غالبية القروض السابقة بدلاً من إعادة هيكلتها لتجنب سلسلة من حالات الإفلاس.
وحتى شهر فبراير الماضي، كان لدى البنوك والشركات التركية التزامات قصيرة الأجل بالعملة الأجنبية في دفاترها بأكثر من 155 مليار دولار، وذلك وفقًا للبنك المركزي التركي.
وتعتبر الطريقة المثلى لدعم الليرة هو رفع أسعار الفائدة وزيادة جاذبية الاحتفاظ بالعملة. ولكن في العام الماضي، أصدر أردوغان تعليمات للبنك المركزي للقيام بعكس ذلك لتعزيز معدلات الإقراض والمساعدة في تحقيق هدفه المتمثل في تحقيق نمو اقتصادي بنسبة 5% في عام 2020. وخلال الأشهر العشرة الماضي، خفض البنك المركزي سعر الإقراض إلى 8.75% نزولاً من 24%، وهو أقل من معدل التضخم.
وفي الشهر الماضي، قام البنك المركزي التركي بسحب أكثر من 19 مليار دولار من احتياطياته من العملات الأجنبية لدعم الليرة، مما أدى إلى انخفاض إجمالي الاحتياطيات إلى 56 مليار دولار. ويقول المحللون الاقتصاديون إن هذا الرقم يفوق حجم الاحتياطيات الباقية لدى البنك المركزي، لأن جزءًا كبيرًا يأتي من العملات الأجنبية التي اقترضها من البنوك التجارية.
وصرح السيد جوركايناك، الخبير الاقتصادي الذي يتخذ من أنقرة مقراً له: "إن تركيا لا تستطيع إبقاء أسعار الفائدة منخفضة لدعم الاقتصاد أثناء استخدام احتياطياتها الأجنبية لدعم انخفاض الليرة". وأضاف "هذان الأمران لا يمكن أن يستمرا معا لفترة طويلة، يجب التوقف عن واحد منهما".