الحديث عن المؤامرة هاجس يلجأ إليه الجميع كتوصيف سهل لما نعيشه الآن من تخلف ورجعية وتدنٍ على أصعدة كثيرة، غير أن المتحدثين عن هذه النظرية لم يكلفوا أنفسهم المزيد من الوقت للتفكير والتدبير ووضع حلول وأطر للخروج من هذه الدائرة التي أصبحت كطوق تحاط به المنطقة العربية.
من البديهي أن هناك صراع بين الدول على مستوى العالم وأن كل دولة تستخدم أساليبها للهيمنة والسيطرة والريادة، ولو تمعنا الرؤية قليلا لوجدنا أن هذه الأمر متأصل داخل النفس البشرية بطبيعتها، وأن أي فرد في مكان ما يستخدم كل طاقاته حتى يصل إلى الريادة ويبقى على رأس المنظمة التي يعمل بها ويتحكم في هذا وذاك، إذا لنتفق على أن هذا الأمر بديهي منذ خلق البشرية، كل مجتمع يريد أن يبقى المجتمع الأول، لكن التساؤل هنا إذا كان كل مجتمع يسعى نحو هذا السعي فلماذا بقيت المجتمعات العربية حتى الآن تدور في ذات الدائرة ؟، وهذا ما أريد التطرق إليه في السطور التالية.
منذ الحرب العالمية الثانية كان العالم يبدأ مرحلة جديدة من التغيرات وكل امبراطورية تسعى لاستمرار هيمنتها على ما هو تحت سلطتها أو ما تسعى له، وكانت منطقة الشرق الأوسط ولا تزال هي محل مطمع الدول كافة، وكان من البديهي أن تبحث تلك الإمبراطوريات على سبل تضمن لها بقاء البلدان العربية تحت سيطرتها خاصة أنهم كانوا يعلمون أن الاستعمار يوحد الشعوب ضد المحتل ويكون موجة انفجارية عاجلا أم أجلا، فما كان منهم إلا أن اهتدوا إلى ما نموذج التفتيت وتصدير صورة الرجعية والتخلف وخلق قيادات رجعية ودعمها لتصبح مرجعا يستند إليه الأميين في تلك البلاد التي كانت مهد الحضارات، نموذج من هذه الأمثلة كانت التعامل في مصر، حيث تم العمل من خلال ما يسمى بـ "الماسونية العالمية" لدعم الطائفة الصوفية في ذلك الوقت ومن بعدها جماعة الإخوان المسلمين، وتصدير مشهد الأصولية الرجعية والاعتماد على بعض الرجال الذين تصدوا لأية محاولات استنارية ، كما أن مستشـرقي جامعـات أكسـفورد وكامبريدج البريطانية قاموا بتتبع العناصر الأكثر تخلفًا في الثقافة الإسلامية وتدوين ملاحظـات عنـها وغرسـها بعناية، ومن ثم جاءت جماعة الإخوان نتيجة التنظيم الصبور من جانب عملاء لنـدن في العـالم الإسـلامي، مـن أمثال ت.ي. لورنس الشهير (لورنس العرب)، وويلفريـد سـكاوين بلانـت، وإ. ج. بـراون، وهـاري سـان جون فيلبي، وأرنولد تونيبي، وبرتراند راسل، وذلك حسب العديد من المراجع التاريخية والبحثية. ملمحا هاما حسب ما ورد في بعض الكتب وكتاب "رهينة في قبضة الخميني" يشار إلى نموذجين أحدهما في السنة والشيعة، منهم العشاري في القرن التاسع (أبو الحسن علي بن إسماعيل العشاري، مؤسس ما يعرف بالمدرسة العشارية الأصـولية في الإسـلام)، والإمام أبي حامد الغزالي في القرن الحادي عشر، نتفق أو نختلف مع منهج هؤلاء إلا أن الراسخ حتى اليوم هو أن العمل هذه المنهجية أتى ثماره المرحلة الحالية، من خلال التأصيل للأصولية ومد الرجعية والتخلف لتدمير كافة النظريات العقلانية، وبالعودة لنظرية المؤامرة فإنه بات من الضروري معرفة جذورها وكيف وضعت استراتيجيتها وما إن كنا قد ساهمنا ونساهم في تنفيذها أم أننا نقف ضدها، وتعود جذورة هذه العملية نسبيا إلى حركة اكسفورد التي اسست في العشرينات من القرن التاسع عشر على يد النخبة البريطانية التي تعمل في إطار الإصلاح الديني برعاية ، كانت مظلة هذه الحركة المذهب الاسكتلندي من الماسونية الحرة، تم تكليف بعثات حركة أكسفورد ببناء فروع تابعة للمذهب الاسكتلندي في كل أنحاء الإمبراطوريـة إلا أنها رأت أن منطقة الشرق الاوسط من الأفضل فيها عدم رد المسلمين عن دينهم وإنما استخدامهم بحيث يصبحون يتوافقون في النهج مع أهدافهم وبذلك يكون تأثيرهم أقوى وقد استقروا على الصوفية بحيث انها متوافقة مع المذهب، وكان افراد العائلة المالكة هم رعاة المذهب وممولي التحركات والحركات الصوفية لتنفيذ مشروع الطوائف البريطاني، من أمثال هؤلاء بنجامين دزرائيلي ولورد بالميرستون ولورد شافتسبيري، وإدوارد بالوير-لايتون. طوال هذه الفترة كان الهدف هو التقسيم الداخلي للمجتمعات العربية ووجود كيانات وطوائف مستقلة بهويتها وذاتها عن باقي الشعب وهذا ما لوحظ في الوقت الراهن كيف وصلت جماعة الإخوان لما هي عليه وأنها تعلي نفسها فوق الدولة والحدود، الأمر أيضا يحيلنا إلى العراق وكيف تم دعم شيعة العراق للعداء مع السنة فكان مشهد الخيانة الذي حدث في حرب العراق 2003 ورأينا أبناء العراق يرحبون بطائرات العدو أي كان اختلافهم مع نظام الحكم في ذلك الوقت، الوضع ايضا في سوريا والعراق وصل إلى هذه الصورة بعدما تمكن هؤلاء من بسط سيطرتهم على بعض الطوائف وتقويتها ودعمها لتعلي قيمتها على قيمة الدولة وهو الأمر الذي خطط له منذ أن أنشأت هذه الحركة، المؤسف في الأمر أن الذين يعلمون كافة هذه المساعي جيدا ويتشدقون بنظرية المؤامرة لم يكلفوا انفسهم ويسعوا إلى العمل بآلية بعيدة المدى للتصدي لهذا التوجهات التي وضعت لمنطقة الشرق الأوسط بل أنها ساعدت في ذلك الأمر من خلال تكرار المصطلح في كل محفل وفي كل لقاء حتى تعمقت الفكرة في أذها الجميع وأصبح مقصد كل فرقة أن تكون هي الناجية على حساب الفرقة الأخرى.
ربما يكون مشهد العراق وسوريا جرز إنذار قوي لما تبقى من الدول التي يجب أن ينتبه الساسة فيها إلى ضرورة عدم دعم التكتلات الطائفية والعمل على الانماط العلمية التي يستظل تحتها الجميع والبعد عن تصدير فكرة الرجعية والتخلف التي تعد أحد اسباب الفشل الراهن مع ربطها بالأصولية والدين، والذي يتم تصديره على أنه وراء العنف والقتل والدم في صورة متناقضة تماما مع مبادئ الديانات السماوية كافة.