- الإمام البدر يعرض على ضابط مصري العمل ضد جيش بلاده وإسقاط الطائرات المصرية
تواصل "أهل مصر" نشر حلقات (يوميات أسير مصري في اليمن)، ضمن سلسلة أجزاء تحكي كواليس حرب خاضها أبطال الجيش المصري من أجل الأشقاء في اليمن، وما دار خلالها مع ضباط وجنود القوات المسلحة. وتكشف سعاد الديب في الجزء الثاني من لقاءها مع عبد السلام الدهشان أحد أبطال حرب اليمن أسرارا تنشر لأول مرة، حول المعاملة الوحشية التي عاملت بها القبائل الموالية للإمام البدر الجنود والضباط المصريين الذين وقعوا في الأسر؛ بما لا يتفق مع أدنى مبادئ معاملة الأسرى لا في الإسلام ولا في القانون الدولي.
كما يكشف "الدهشان" في مذكراته عن حجم الكراهية التي كانت تحملها صدور بعض العرب ضد مصر بالرغم من التضحيات الكبيرة التي قدمتها وقدمها كل جندي مصر من أجل تحرير اليمن وباقي الدول العربية من الرجعية ومن الاستعمار، ويحكي الدهشان في الجزء الثاني من مذكراته ما حدث له في الأيام التالية خلال فترة الأسر:
- لقاء رهيب مع الإمام البدر واتهامات بالعمل مع المخابرات المصرية
"فى صباح اليوم التالى من تلك المقابلة مع الصحفى والأمير، دخل علينا أحد الحراس وصاح فينا.. انهضوا فورا وارتدوا ملابسكم فإن مولانا الإمام البدر سيصل حالا لمقابلتكم.. شعرت برهبة وبشىء من الخوف لهذه اللحظات القادمة؛ وخاصة بعد مقابلة الأمس السيئة مع الصحفى والأمير.. اقتادنا الحراس وأوقفونا صفا واحدا خارج السجن.. وإذ بمئات من أفراد القبائل تقبل نحونا وبينهم الإمام بدر بعد أن هبط من إحدى السيارات "اللاندروفر" وتوسط حراسه حتى وصل إلينا لمسافة خمسة أمتار تقريبا".
"كان يرتدي الملابس اليمنية، وهي عبارة عن قطعة كبيرة من القماش ملتفة على وسطه وسترة بلون (كاكى) شبه عسكرية بأزرار نحاسية ونظارة شمسية من الطراز القديم، ويشد خنجره على وسطه مثل كل اليمنيين ويحمل مسدسا على جنبه الأيمن وبندقية على كتفه وأشرطة الذخيرة تتقاطع على صدره ووسطه؛ لحيته طويلة سوداء وينتعل حذاء من الكاوتشوك.. هذا هو إمامهم المخلوع.. هكذا كان مظهره لا يحمل أبسط أشكال أو وسائل المدنية الحديثة.. تقدم منا وأخذ فى مصافحتنا الواحد تلو الآخر ثم ركز عينيه علىّ وقال: "من هو الضابط عبد السلام؟، فقلت له: أنا.. فقال: أنت الضابط عبد السلام؟ إن المعلومات عنك سيئة للغاية وأنا أحذرك وإلا فلن ترى شمسنا بعد ذلك.. لم أنطق بحرف ردا عليه، ولكن عيناي تركزت تجاه الحرس المحيط به المتحفز للنيل منى بإشارة منه، وجوهم تبث الرعب والقشعريرة في جسدي.. وكل منهم يطيل شعره كالمرأة ويدهنه بالسمن حافيا.. خنجره على وسطه إذا أخرجه كما أعرف ورأيت لا يعود إلا ملطخا بالدماء".
أمر الإمام بانصراف زملائي المصريين إلى داخل السجن ثانية، وهممت بالانصراف معهم و لكنه استبقاني قائلا: "قف أنت يا عبد السلام.. فتوقفت.. وتكتل الحراس بجانبي ووضعوني فى مواجهة الإمام الذي قال لي ما رتبتك الحقيقية؟، فقلت له إنها المدونة لديكم "ملازم" فقال: إنك تكذب فأنت برتبة نقيب وقُل الحقيقة.. فقلت له: أنا ملازم فقط.. فسألنى عن سلاحى.. فقلت له: إننى أقوم بأعمال إدارية فقط.. فقال لى: ألا تريد الاعتراف بالحقيقة وبأنك من سلاح المخابرات المصرية.. فقلت له: "أنا لست من سلاح المخابرات المصرية، صمت قليلا وتشاور مع من حوله من الأمراء المرافقين له ثم قال لى: ما هى صلتك بالمشير عامر؟.. فقلت له: لا شيء.. فقال لى: ولكن معلوماتنا تفيد بأنك ابن أخته وأنه خالك.. قلت له: ما هو إلا قائدى الأعلى فقط.. فقال لى لا تنكر فلن تعيش طويلا بهذه الأفكار".
"كان هذا الحوار المتبادل بيني وبين الإمام مفاجأة لي لم أكن تـوقعها..إنها غريبة حقا، وأخذ الإمام فى الحديث والتشاور مع الأمراء المرافقين له ثم اتجه أى أحدهم قائلا: نعرض عليك العمل معنا على المدافع المضادة للطائرات وجهاز توجيهها.. ذلك الجهاز الذي سقط معنا بسقوط القلعة ولم تسعفنا الأحداث لتدميره وستأخذ ما لا يقل عن خمسون جنيها ذهبيا فى الشهر.. وكانت هذه هى اللحظة الحاسمة التي ستحدد مصيري، وهم ينتظرون قرارى عن هذا العرض.. فأجبته قائلا: أنا لا أعمل فى هذا السلاح وغير متخصص فيه.. ظهر الغيظ على وجه الإمام ومرافقيه وعلا صوت الهمهمة بين صفوف قبائل الحرس المرافقة له".
ثم أصدر الإمام بعض أوامره للحراس وانصرف بين الجميع وقام حراس السجن بأخذي منفردا وألقوا بي في زنزانة صغيرة كحبس انفرادي.. وأسيئت معاملتى و كثيرا ما دريت بنفسي إلا وأنا أفيق على ضربات مؤخرات البنادق فى جسدى وأنا بهذه الزنزانة الصغيرة الموجودة أعلى سطح السجن الموجود به باقى الأسرى المصريين.. وفى الليل جاءني أمير يمنى يدعى "الحسن بن إسماعيل" و أفى محادثتي بعجرفة وهو يطلب مني الموافقة على ما طلبه الإمام فى الزيارة السابقة والاعتراف بحقيقة أمري وإلا فسوف يصيبني الأذى.. لم أرضخ أو أستسلم لهذا الأمير رغم محاولته لإغرائي بحكاياته عن نفسه وعن تعليمه بالقاهرة بكلية البوليس وعن معرفته لجميع بلدان مصر.. وعن الحياة التي سأعيشها بينهم إذا وافقته على مطالبه رفضت وأنا أفرغ أمرى بين يديه ولم أقبل الاستسلام لرغباته وإغراءته".
يوميات أسير مصري فى حرب اليمن
الحبس في زنزانة انفرادية والتعذيب اليومي والملاريا والتجويع عقاب البدر للضابط المصري
"خرج وهو يسبني ساخطا وأوصى الحراس بإساءة معاملتي، وتحملت الكثير من الإهانات والتعذيب والضرب والجوع فى الزنزانة الانفرادية الضيقة التى لا تكاد تسعني ممددا.. وجاءني مندوب من الصليب الأحمر فى الشهر الثالث من الأسر وأعطانى بعض الأدوية وسجلنا لديه كأسرى حتى يأتى يوم تسليمنا.. ذلك إذا جاء هذا اليوم.. فأنا لا أرى قبسا من ضوء لهذا اليوم.. ولكن الأمل كان يحدونا".
"مكثت فى الحبس الانفرادي ثلاثة أشهر ورقدت مريضا بملاريا قاسية لم ترحمنى، زدّ على ذلك حرارة الجو وقذارته والجوع المهلك حتى أنى لا أذكر أني قد تناولت ما يوازي الخمسة أرغفة من العيش طيلة الثلاثة أشهر ولم تلمس المياه جسدي فقد كنت لا أجد ما أروى به ظمأي وأنا محموم بالملاريا الشديدة.. كنت كمن يقضى نحبه فى لحظاته الأخيرة".
"وصلت الأوامر من الامام بنقلنا إلى سجن آخر داخل الحدود اليمنية وأحضروا السيارات لتوصيلنا إلى إول الطريق المؤدي إلى هذا السجن، حيث إن الطريق إليه كان سيرا على الأقدام.. ولكنى لا أقدر على السير خطوة واحدة.. فالحمى الشديدة تنهش جسدي وأنا أرى نهايتى فى هذا الطريق.. أبلغت رئيس الحرس بأننى لن أستطيع السير لمرضى وطلبت ركوب حمارا أو جملا فالطريق طويل وسيستغرق كما يقولون خمسة أيام فصاح فى الشيخ غاضبا: سر أيها الفرعوني الملعون وإلا قتلتك هنا وتركت جثتك للكلاب.. وسواء رضيت أم أبيت السير فلم يكن لي الخيار فقد دفعونى أمامهم بأيديهم تارة و بالركل تارة أخرى وبمؤخرات بنادقهم تارة ثالثة، وقعت كثيرا أثناء السير وهم يجبرونني على السير ثانية وأنا أنهض غير قادر كالسكير أرتمى يمينا و شمالا و نحن لا نزال فى يومنا الأول".
"سقطت على الأرض وأخذت أرفع رجلى من شدة الألم وأرتمى بعنف على الصخور لا أدري ما أصابني.. كنت أحاول قتل نفسي بأي طريقة وأخذت أفرغ ما بجوفي من مياه داكنة حتى كدت أختنق.. المياه مختلطة بالدماء.. والكحة تكاد تمزق صدري وتمنيت في هذه اللحظة الموت من كل قلبى.. فهو راحة لي ورحمة وسط هذا العذاب، ووجد الحراس أننى فعلا لا يمكنني متابعة السير معهم ولو خطوة واحدة فاستأجر أحد الجمال من قبائل الطريق وربطوني فوقه بالحبال.. وكانت هذه هى المرة الأولى التي أركب فيها جملا واهتزازات الجمل تؤلمنى وأنا أكاد أقع من فوقه وهو يعلو ويهبط بين الصخور، وأخذ الجوع والتعب ينهشان فى أجسادنا أربعة أيام بين هذا الطريق بشمسه الحارقة نهارا وبرده القارس ليلا.. ولم يكن هناك من الطعام ما يكفينا للصمود فى هذا الطريق الشاق بجانب الضرب والاهانات، تورمت وتشققت رجلى وكذلك جميع المصريين الذين معى ولم نعد نستطيع السير ولم يبق سوى يوم واحد على بلوغ المكان المساقون إليه، وسحبوا مني الجمل الذى كنت أركبه، حيث علينا الآن أن نصعد إلى قمة أحد الجبال.. ونظرت إلى أعلى أبحث عن قمة هذا الجبل التي تختفي بين السحب، وكم من الزمن يستغرق صعود هذا الجبل؟، فإن التسلق والصعود أصعب من النزول والانحدار.. فالجبل لا تظهر قمته بالعين المجردة وقمته مغطاة بالسحب.. للمرة الثانية أخبرتهم عدم قدرتى على الاستمرار فى السير ولكن "السب و اللعن و الضرب" بالأرجل ومؤخرات البنادق دفعاني أمامهم صاعدا هذا يدفعنى بيده وهذا يجذبني من ملابسي بقسوة وغيره يدفعني للأمام ببندقيته، حتى فكرت فى إلقاء نفسى من منتصف هذا الجبل لأستريح من هذا العذاب".
معاملة وحشية للأسرى المصريين وقيود حديدية في ساق (المصاري الفراعنة) لإذلالهم
"وكنت دونًا عن باقي المصريين يسير حولي أعداد مضاعفة من الحراس اليمنيين، فأنا كما يعتقدون ابن أخت المشير عامر والضابط الأكبر لهؤلاء الأسرى المصريين.. فلو أنهم تركونى وحدي ما استطعت الهرب، فأنا لا أقدر على مجرد الوقوف.. فكيف أهرب من منطقة لا أعرف عنها شيئا؟ بين قبائل العدو التى تتمنى اصطيادي وحدى".
"انتصف الجبل ولا زال هناك الكثير ولم أستطيع المتابعة.. لا فائدة.. سقطت من الإعياء بين الصخور وأصبت ببعض الجروح، فليقتلوني رحمة بى وراحة لهم.. وكانوا بالفعل يتمنون قتلي والخلاص مني ولكن أوامر الإمام تقضي بالتحفظ على جيدا للاستعانة بي فيما بعد.. وأخذنا فى ارتقاء الجبل حتى اقتربنا من نهايته وقد بدت الوديان والصخور فى السفح وكأنها شرائط من القماش الأبيض متناهية الصغر.. ووصلنا إلى قمة الجبل وتابعنا السير على قمته حوالي عشر كيلو مترات حتى وصلنا إلى مبنى صغير على إحدى التباب وقالوا لنا إنه سجننا الذي سنقضي أيامنا به".
"وأحاطت بنا قبائل تتفرج وتتفحص هؤلاء المصاري الفراعنة.. هكذا كانوا يسموننا وكانت المرة الأولى التى يصل فيها أفراد مصريون إلى هذه المنطقة.. لذلك راح الأهالى يتفرسون فينا وكأننا مخلوقات غريبة مختلفة عنهم، وارتمى حمل ثقيل من القيود الحديدية بجانبنا، وبدأ حراس السجن فى دق قيد حديدي لكل منا نحن المصريين، وجاء دوري فى تقييد أرجلي حيث رقدت على ظهري ورفعت قدامي لأعلى على إحدى الصخور بين ضحكات السخرية والاستهزاء من الأهالي، وإذا بأحد الحراس يصيح انتظروا إن هذا هو ضابطهم وكبيرهم فضعوا له القيود مضاعفة.. وبالفعل أحضروا قيدا حديديا آخر ثقيل الوزن به قطعة كبيرة من الحديد فى وسطه تمنع الأقدام من الإلتقاء وكان يزن حوالي عشرين كيلو جراما".
"عذبني كثيرا هذا القيد وحرمني من النوم والسير والحركة.. وبتنا نحن المصريين الثمانية عشر في غرفة السجن التي لا تزيد عن أربعة في ثلاثة أمتار وكأننا ننام واقفين وقرفصاء قاسية أدمت أرجلنا من القيود الحديدية، ويزال الجوع ينهش والمرض يتغلغل فى أجسادنا ويكاد يفتك بنا.. القليل من الدقيق وبعض "البقشات" عملة يمنية توازي المليم لدينا أسبوعيا لكل منا هى طعامنا فماذا نفعل بها؟.. وهى لا تسد الرمق ولا تكفي لدرء هذا الجوع الذى يكاد يفتك بأجسادنا؟، هكذا كانت معيشتنا بالإضافة إلى القليل من الملح والخضراوات الذابلة التي كنا نستجديها.. حتى انتقلنا إلى سجن آخر بنفس المنطقة أكبر فى مساحته قليلا.. يكاد يكفينا راقدين والقيود الحديدية تدمى أرجلنا وتصيبنا بأرق طوال الليل".