يافت وأشفور وغيرها.. سِّـيم بين أهلِ الصاغةِ، يتداولُونه في لُغاتهم، ولا يُدرك فحواه ومعناه غيرهم، ورَّثُوهُ لأبنائهم وصُبيانهم، فلَحَنَ صغيرهم بِلَحْن كبيرهم، يُمررون به ما يُريدونه أمام زبائنهم، ويُصنِّفُونهم ما بين صالحٍ وطالحٍ، مُقتدرٍ ومُفْلِسٍ، كما يصِفُون به ما يُعرض عليهم من حقيقي الذهبِ وزَّائِفُه، والسِّـيم كاللُغة،وسيطا صوتيا يُتفاهم به، فيتطابق معناه عند ناطِقيه وسامِعيه، ولايكاد يخلُو المجتمع من طوائف تتحدثُ بـ " السِّـيم " كما تُجار الذهب ومُصنِّعِيه.
والسِّـيم في الفصحي "اللَّحْنُ "و "المَلاحِنُ"، أي الألغاز، يقول ابن دريد في كتابه " الملاحن"، "الأصل في لحْن الكلام " التورية "، ويقول تعالي:( وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ في لَحْن القَوْلِ )، وهو الكلام ذو التعريض أو التورية أو المُصطلح عليه بين شخصين،فهو من صفات المنافقين،إن كان الغرض منه الفساد والإفساد،أما وإن كان من ضروريات الحياة كلحن أرباب المهن والأجهزة المخابراتية،فلا بأس به، فيزول الحكمُ بزوال علته.
كان أول من وضع قاموس للغات السرية لأرباب المهن، وكذا تناولها بالدراسة والتأريخ،هو المُفكر المصري الراحل " محمد لطفي جمعة " (1886 - 1953)،وما أشار اليه " جمعة " في كتابه " أي سِّـيم " أن هناك فرقا بين "اللغة الخاصة" و"اللغة السرية"، فالأولي ليس غايتها الإخفاء وإنما التفاهم السريع، فهي لُغة فنية تُشكلُ بمُصطلحات والفاظ المهنة، بينما الثانية منشؤها روح الخوف والعداء بين الطبقات،وغايتها حماية فريق أو جماعة من غيرها.
ويشير الدكتور سامح عباس استاذ اللغة العبرية بجامعة قناة السويس، إلى أن فكرة الرمز والسِّـيم عادة يهودية قديمة، فمن سمات اليهود أنهم قوما مُنغلِقون علي أنفسهم، وكان من الطبيعي أن تنشأ لهم لغة خاصة بهم، يتفاهمون بها ويتداولونها فيما بينهم، وتعد فترة خضوعهم للحكم الإسلامي بالأندلس، من أزهي عصورهم في استخدام السِّـيم واللغات السرية، فكان من ثمرتها طريقة كتابة اللغة العربية بحروف عبرية، ومن ثم فقد انتقلت هذه الوسيلة في استخدام الرمز إلي كافة اليهود في العالم.
ويوضح "عباس"، أن اليهود المصريين انغلقوا علي أنفسهم، بحارة نُسب اسمها إليهم ليومنا، وقد عُرف عن اليهود المصريون سيطرتهم علي تجارة الذهب، الأمر الذي أدي بدوره إلي استخدمهم سِّـيم فيما بينهم، ومن ثم انتقل هذا السِّـيم للمصريين العاملين معهم في قطاع الذهب، وحينا باتت تجارة وصناعة الذهب متوارثة بين العائلات بعد رحيل اليهود عن مصر، دخل السِّـيم كموروث مثل الصنعة وفنونها وأسراها، مع حدوث تحوير لبعض منه، فنجد كلمة " يافي " أصبحت "يافت" وهي كلمة عبرية تعني "جيد".
وهذا ما أشار اليه " فؤاد عبد الباقي "- الجواهرجي بمنطقة الصاغة – حيث تعلم المصريون من اليهود السِّـيم كما تعلموا منهم المهنة، ومن ثم توارثُها جيل بعد جيل، وباتت جزء من حياتهم اليومية، حتي خارج سياق العمل.
وما يُميز هذا السِّـيم بساطة تركيب لُغته، فهو لا يُشكل من جُمل، بل من كلمات عبرية، ويستخدمونه في مواقف مختلفة مع الزبائن، بغرض تحديد الأسعار أو تمرير معلومات من وراءهم، أو تصنيفهم بين جاد أو غير ذلك، أو لتقيم المشغولات الذهبية المعروضة عليهم كونها مُزيفة أم حقيقية.
ويشير خالد سعيد حمودة جواهرجي بالصاغة، أن من كلمات سيم الصاغة والمُتداولة بين تُجارها، " الدفش اللي فشلك" الرجل اللي واقف معاك، " شقوق" فلوس،" الأدمون " أي الذهب المستعمل، " الدفش مفتلوش شقوق " ليس معه فلوس، " هربص لك " سأتي لك، " الدفش كباري " المعلم أو الرجل كبير السن، " هنربص " هنروح، " دبر " أعطي، " جفت " لا تتكلم.
بينما مفردات السيم التي أوردها " محمد لطفي جمعة " في قاموس" أي سيم" عن لغة الجواهرجية والصاغة تضمنت، "دفش" أي رجل أو الزبون، "الدفش أشفور" أي زبون رديء، "افقس" أي اطرد الزبون، "اتحبس" أي خذ حذرك، "بار" ذهب مزيف،، "يافت" ذهب خالص، أو زبون كويس.
ومازال تُجار الذهب المصريين إلي الآن، يستخدمونا الأرقام العبرية في تعاملاتهم التجارية مثل، "إحاد، شتى، شالوش، أي بع، خامش، شيش، شيفع، شمونه، والتي تعنى واح داثنين ثلاث اربع، خمسة إلى أخره، هكذا، ( echad (1 ) احاد، shnayin ( 2) شتي، shlosha (3 ) شالوش، shloshin ( 30)شالشين، shishin (60)، shefin (70)، shmonin ( 80 ).
وفي تقريرا عرضه موقع "المينتور Al-monitor " العبري، عن دراسة قام بها الباحث الإسرائيلى "د. جابرييل روزنباوم" - البروفسيور بالجامعة العبرية في القدس،والمتخصص في شؤن اليهود المصريين واللغة المصرية الحديثة - عن اللغة السرية ( السيم ) لتجار الذهب اليهود المصريين، وقد أجري هذه الدراسة علي أسواق الذهب المصرية بمنطقة الصاغة وخان الخليلي، والأسكندرية ( شارع فرنسا )، ودلتا مصر ( طنطا ودمنهور ).
ووفقا لما أشارت إليه الدراسة أن تجار الذهب يتداولون كلمات ترجع لأكثر من ألف سنة،وتعود إلي اللغة العبرية القديمة التي كان يستخدمها اليهود المصريين خلال العصور الوسطي، وتحديدا بالقرن الثامن الميلادي، والذين كانت غالبيتهم من اليهود القرائين.
وسرد " جابرييل " في دراسته،عدد من الكلمات المتداولة في سوق الذهب، منها كلمة (Yaffet) "يافت" وتعنى "جيد "، وأشار إلي أن هذه الكلمة مازالت تُسخدم إلي الآن في العبرية الحديثة، وتستخدم للتعبير عن آراء التجار حول جودة المنتج، وعلي عكس كلمة " يافت " يستخدم التجار كلمة " أشفور ashfoor "، ولكنها كلمة ليس لها جذور أو ما يوازها في العبرية.
وأيضًا، كلمة (Zahub) وهي كلمة مأخوذة عن الكلمة الأصلية في العبرية " zahav "زهاف" وتعنى الذهب، والتي كانت تستخدم للإشارة إلي الجنيه الذهب المصري، وكلمة " هلا halah، وتعني "الذهاب" في العبرية الحديثة ويستخدمها التُجار مع بعضهم لأخذ الحذر من الزبون، وهي كلمة لها أصل في العبرية القديمة فأصلها halakh، أو ahalakh.
و تُستخدم كلمة "admoon أدمون"، للدلالة علي "الذهب المستعمل أو القديم "، أو قطعة المجوهرات التي تم إصلاحها وتلميعها وعرضها مرة أخري للبيع، ويشير الباحث إلي أن مصدر هذه الكلمة في العبرية هو كلمة " كادمون " kadmon، وهي ما تعني " القديمة ancient" أو "القديمة old " كما في العامية المصرية، وأشار إلي أن حرف K في هذه الكلمة " صامت " يُكتب ولا يُنطق، وبالتالي نُطقت " أدمون " بدلًا من " كادمون ".
كما استخدمت كلمة "شال shal " وهي كلمة عبرية قديمة للدلالة علي " التملك "، حيث تعني " شالي Shali " أي عندى أو ملكى او في حوزتي بالعبرية، و"شلخا shalakh " بمعنى عندك أو ملكك، وكلمة " بار " تعني ذهب مزيف أو مغشوش،وهي كلمة سريانية قديمة تعني في اليهودية أو العربية " ابن سوء".
مما لاشك فيه أن كل فئة من فئات المجتمع ذات أيدلوجية معينة كالجماعات الدينية والعرقية لديها لغات سرية أو سِّـيم، وكذلك المنظمات الإجرامية والرياضيين والطلاب، حتي أننا نتحدث أمام أطفالنا بكلمات غير مفهُمومة بالنسبة لهم، كما أن هناك لُغات وضعت لأغراض مُحددة مثل لُغة المهنيين والتُجار،و الغرض من ذلك هو تحديد الأسعار أو تمرير معلومات من وراء الزبائن.