التحالف الحكومي الحالي الذي يقوده الحزب الاشتراكي الديمقراطي بالائتلاف مع حزب الشعب المحافظ في النمسا، هو تحالف حكومي موسع يشارك فيه أكبر حزبين في النمسا، لهما تاريخ طويل ومشاركة دائمة في جميع الحكومات الائتلافية المتعاقبة التي شهدتها النمسا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بيد أن جميع المؤشرات تؤكد تآكل الرصيد الشعبي للحزبين التقليديين بشكل كبير، لاسيما خلال السنوات الثلاث الماضية، مقابل حدوث زيادة كبيرة في شعبية حزب "الحرية" اليميني المتطرف، بقيادة هاينز شتراخه.
وتظهر نتيجة أحدث استطلاع رأى أجرته مؤسسة "جالوب" في النمسا، استمرار زيادة شعبية حزب "الحرية" اليميني المتطرف، وتصدره لقائمة الأحزاب النمساوية برصيد 35%، متقدمًا بواقع 10% على أقرب منافسيه الحزب الاشتراكي الحاكم، الذى تراجع إلى المركز الثاني برصيد 25%، فيما جاء حزب الشعب المحافظ في المركز الثالث برصيد 19%، وزيادة شعبية حزب الحرية اليميني المتطرف لها أسباب منطقية، ذات صلة بالأوضاع الراهنة في النمسا وأوروبا.
تتسم الأوضاع الراهنة في النمسا وأوروبا بخوف المواطنين من أزمة تدفق اللاجئين إلى النمسا وجميع التداعيات السلبية ذات الصلة بهذه المشكلة، من تورط اللاجئين في ارتكاب جرائم واستخدام العنف والتورط في تجارة المخدرات وزيادة معدل البطالة، وكذلك فقدان المواطن النمساوي للشعور بالأمن وخوفه من وقوع عمليات إرهابية كما حدث في عدة دول أوروبية، لاسيما بعد التأكد من تسرب عناصر جهادية ومتطرفة بين صفوف اللاجئين إلى النمسا.
وبالتوازي يحرص حزب الحرية اليميني المتطرف على استغلال هذه الظروف في تحقيق غايات سياسية وانتخابية، بالتزامن مع تطلع حزب الشعب المحافظ إلى قيادة تحالف حكومي جديد مع حزب الحرية اليميني، مقابل التخلي عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي.
فيما يطمح حزب الشعب المحافظ، الشريك الائتلافي في الحكومة، من جديد في تولي رئاسة الحكومة، للمرة الأولى منذ عام 2000، عن طريق الائتلاف مع حزب الحرية اليميني المتطرف، الذي تحالف مع حزب الشعب المحافظ كشريك ائتلافي وسمح له برئاسة الحكومة في عام 2000.
ويستخدم المحافظون لتحقيق هذا الهدف عدة وسائل منها الاستفادة من تآكل شعبية الحزب الاشتراكي الديمقراطي، التي كان سببها الرئيس موقف الحزب الاشتراكي المتعاطف مع اللاجئين السوريين والعراقيين، وتصوير الحزب الاشتراكي على أنه السبب في أزمة اللاجئين وتزايد خطر الإرهاب في النمسا، بسبب سياسة الأبواب المفتوحة التي تبناها الحزب في تعامله مع قضية اللاجئين.
بينما يتبنى حزب الشعب في المقابل مواقف وسياسات متشددة للغاية ضد اللاجئين، ويطرح أفكارًا تصل إلى حد التعارض مع المعايير الإنسانية الأوروبية والدولية، مثل دعوة وزير الخارجية المحافظ، سباستيان كورتس، إلى اعتقال اللاجئين والمهاجرين على جزر في البحر المتوسط، اقتداءً بالنموذج الاسترالي، وذلك لاستقطاب المزيد من الأصوات الانتخابية الخائفة والمذعورة من تداعيات أزمة اللاجئين والإرهاب، حتى لا تتوجه إلى صفوف حزب الحرية اليميني المتشدد، الذي زادت شعبيته مؤخرًا بشكل غير مسبوق.
كما يعمد حزب الشعب المحافظ إلى الضغط على الحزب الاشتراكي للموافقة على تبني قرارات وإجراءات قوية ضد اللاجئين، مثل "مرسوم الطوارئ"، الذي يقضي بوقف دخول جميع اللاجئين إلى النمسا مع وصول عدد اللاجئين الجدد إلى 37 ألفا و500 خلال العام الجاري، وهي القوانين التي تفقد الحزب المزيد من أصوات قواعده الاشتراكية التي تؤمن بضرورة مساعدة اللاجئين المحتاجين.
وفي ذات السياق، يعمد الحزب المحافظ إلى إشاعة المزيد من الخوف والذعر بين المواطنين، من احتمال وقوع عمليات إرهابية في النمسا، بشكل غير مباشر عن طريق الدعوة إلى تشديد قوانين الإرهاب للمرة الثانية على التوالي خلال فترة زمنية قصيرة، الأمر الذي رفضه رئيس الوزراء الاشتراكي مؤكدًا أن القوانين الحالية تكفي إذا ما تم تطبيقها بشكل جيد.
ويستغل المحافظون نجاح جهود وزير خارجية النمسا المحافظ، سباستيان كورتس، في قطع طريق البلقان أمام المهاجرين بعد مفاوضات وزيارات قام بها إلى دول البلقان، واهتمام الحزب بتسويق الوزير على أنه رئيس الوزراء القادم، القادر على التعامل مع أزمة اللاجئين والهجرة غير الشرعية، مقابل فشل الاشتراكيين.
كما يسود شعور بأن حزب الشعب المحافظ يتعمد عرقلة توصل الحكومة إلى قرارات في القضايا الهامة، ويفشل محاولات الحزب الاشتراكي الهادفة للتوصل إلى حلول في القضايا التي تعود بالنفع على المواطن النمساوي، ويمكن أن تساهم في زيادة شعبية الاشتراكيين مثل تعديل قوانين المعاشات، السيطرة على زيادة ايجارات المنازل، بهدف حرق قيادة الحزب الجديدة المستشار كريستيان كيرن، الذي تولى مسئولية الحكومة منذ شهور قليلة عقب استقالة المستشار فيرنر فايمن، مع التركيز على استغلال جميع الفرص المتاحة في الهجوم على شخص المستشار الجديد لتشويه صورته وتقليص شعبيته.
وعلى الجانب الآخر يعاني الحزب الاشتراكي الديمقراطي من مشكلة ضيق مساحة الاختيارات المتاحة، التي حصر الحزب فيها نفسه عند تشكيل أي حكومة، بسبب صدور قرار ملزم من رئاسة الحزب قبل سنوات، يحظر التفاوض أو التحالف مع حزب الحرية اليميني المتطرف، ويستبعده مسبقًا من أي مفاوضات محتملة لتشكيل الحكومة، ما جعل الحزب الاشتراكي رهنًا لضغوط ومطالب حزب الشعب المحافظ، البديل الوحيد المتبقي أمامه الذي لا يمانع في التحالف مع حزب الحرية اليميني المتطرف، كما فعل في عام 2000.
ويعتزم الرئيس الجديد للحزب المستشار كريستيان كيرن، التغلب على هذه العقبة وتفويت الفرصة على حزب الشعب المحافظ عن طريق إلغاء قرار رئاسة الحزب السابق الذي يستبعد حزب الحرية اليميني المتطرف من أي مفاوضات محتملة لتشكيل حكومة جديدة، والقيام في المقابل بوضع كتالوج يتضمن مبادئ وخطوط الحزب العريضة لأي حزب يرغب في التحالف مع الاشتراكيين، حتى يتخلص الحزب من اتهامه بممارسة سياسة الإقصاء ضد حزب الحرية اليميني المتطرف، وينهي العزلة السياسية مع الحزب اليميني، الذي استفرد به حزب الشعب المحافظ واستخدمه في تهديد الاشتراكيين بالتحالف معه.
ويرى محللون أن عقد رئيس الحزب الاشتراكي، كريستيان كيرن، رئيس الوزراء اجتماعًا سريًا بعد توليه المسئولية بوقت قصير مع رئيس حزب الحرية اليميني المتطرف، هاينز شتراخه، في شهر يوليو الماضي، قد يكون بمثابة بداية لحدوث إنفراجة في العلاقات بين الاشتراكيين واليمينيين لتفويت الفرصة على المحافظين، لاسيما وأن التصريحات التي خرجت عن الحزب اليميني تحدثت عن لقاء إيجابي.
وعلى صعيد السياسة الداخلية، استغل رئيس وزراء النمسا الأزمة التي حدثت في العلاقات مع تركيا، بعد توجيه الرئيس التركي انتقادات إلي النمسا لمنعها خروج التظاهرات التركية بشكل غير قانوني، ودعا إلى إنهاء مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وتصدى بقوة لجميع التصريحات الصادة عن القيادة السياسية التركية، في محاولة لتعزيز شعبيته عبر الوقوف بقوة ضد التجاوزات التركية في داخل النمسا وخارجها، ودحض اتهامه بالتساهل مع الجالية التركية للحصول على أصواتها، وهي سياسة جديدة يحاول رئيس الوزراء الاشتراكي بها سحب البساط من تحت حزب الحرية اليميني المتطرف، الذي يعمد إلى استقطاب أصوات الناخبين عن طريق شن الهجوم على الأجانب والأتراك والمسلمين.
وفي النهاية يمكن وصف وضع حكومة النمسا الائتلافية الحالية بأنه غير مستقر، بسبب تآكل شعبية الحزبين الاشتراكي والمحافظ مقابل الزيادة الكبيرة في الرصيد الشعبي لحزب الحرية اليميني المتطرف، وبسبب انعدام ثقة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الحاكم في شريكه الائتلافي حزب الشعب المحافظ، الذي يتحين الفرصة المناسبة لفسخ الائتلاف الحالي والدعوة إلى إجراء انتخابات برلمانية مبكرة، قبل موعدها المقرر في عام 2018، يستغل نتيجتها في عقد تحالف جديد مع حزب الحرية اليميني المتطرف، الذي يطمع في الدخول إلى الحكومة القادمة بعد زيادة رصيده الشعبي وتصدره المركز الأول في استطلاعات الرأي بفارق نحو 10% عن أقرب منافسيه الحزب الاشتراكي الديمقراطي، مستغلًا تداعيات أزمة اللاجئين وزيادة المخاطر الإرهابية.