في كل بقعة يمكنك التفرغ لحب الله، في كل حضرة يوجد مولانا وشمسه، دينهم إنا لله وإنا إليه "عاشقون" يهيمون في الأرض بعشق لكل ما يتجلى فيه روح الله، لم يكن مولانا جلال الدين الرومي أولهم، كما أنه لن يكون آخر المتصوفين.
"جلال الدين" آخر خرج من قلب صعيد مصر، تصوف واعتزل الناس والحكام، ألف كتبًا في التفسير والفقه والحديث والأصول والنحو والبلاغة والتاريخ والتصوف والأدب، لم ينته ذكره بوفاته، فحول ضريح "جلال الدين السيوطي" بمنطقة القيسارية يتجمع محبيه ومريديه من كل محافظات مصر، كل عام، للاحتفال بمولد "مولانا" قبل أسبوع من يوم ميلاده.
"رقصة سما" تلك الحلقة الروحية التي يدور فيها المتصوفون في عزلة نهائية عن العالم، يسبحون فيها في فلك الله، وتتواصل أرواحهم دون كلام مع خالقهم، ابتهالات تعلو بأصوات مبتهلين، منشدين يرددون كلمات في حب الله، فأنت في حضرة الخالق، هكذا طقوس الصوفية، التي يتعبها المحتفلون في إحياء مولد مولانا "جلال الدين السيوطي".في أسرة عرفت بالتدين والعلم، ووالد اشتهر بمكانة علمية رفيعة، ولد الشيخ جلال الدين السيوطي، واسمه الحقيقي "عبد الرحمن بن الكمال أبي بكر بن محمد سابق الدين بن الخضيري الأسيوطي" يوم الأحد غرة شهر رجب من سنة849هـ، المـوافق 10 سبتمبر من عام 1445م، وبعد ست سنوات توفي والده فنشأ "جلال الدين" يتيمًا، عامان مرا بعد ذلك وكان مولانا حافظًا للقرآن وألفية بن مالك.
"رُزقت التبحر في سبعة علوم: التفسير والحديث والفقه والنحو والمعاني والبيان والبديع" هكذا يعرف السيوطي نفسه، فبعد أن جاب البلاد طلبًا للعلم، وزار بلاد الشام والهند والمغرب وأرض الحجاز، وكان له نصيب من الفتوى، كما أنه أملى الحديث، ويقول السيوطي عن نفسه: "وقد كملت عندي الآن آلات الاجتهاد بحمد الله، أقول ذلك تحدثًا بنعمة الله لا فخرًا، وأي شيء في الدنيا حتى يطلب تحصيلها في الفخر؟!". وكانت الحلقات العلمية التي يعقدها السيوطي يقبل عليها الطلاب، فقد عُيّن في أول الأمر مدرسًا للفقه بالشيخونية، وهي المدرسة التي كان يلقي فيها أبوه دروسه من قبل، ثم جلس لإملاء الحديث والإفتاء بجامع ابن طولون، ثم تولى مشيخة الخانقاه البيبرسية التي كانت تمتلئ برجال الصوفية. في قواعد العشق الإلهي فإنه لكل "جلال الدين" شمسًا، وبالنسبة لجلال الدين السيوطي كان له تلاميذ أبرزهم "شمس الدين الداودي" صاحب كتاب "طبقات المفسرين"، و"شمس الدين بن طولون"، و"شمس الدين الشامي" محدث الديار المصرية، والمؤرخ الكبير "ابن إياس" صاحب كتاب "بدائع الزهور".
عاصر جلال الدين السيوطي، أحداثًا كبيرة في التاريخ الإسلامي، حيث سقطت الخلافة العباسية في بغداد عام 656هـ، الموافق عام 1258م في أيدي المغول، وقتل الخليفة والعلماء والرعية –إلا القليل- وتم تحطيم المكتبة العربية الضخمة التي أُلقيت في نهر دجلة، وفي أقصى الغرب زالت دولة الإسلام بالأندلس بعد سقوط غرناطة عام 897هـ، الموافق عام 1492م، ثم جاءت معها محاكم التحقيق لتقضي على البقية الباقية من المسلمين هناك، وحرق رهبان هذه المحاكم مكتبة الإسلام هناك، ورغم ذلك واكب تلك التحركات صعود ثقافي وعلمي للمسلمين حيث ظهر عصر الموسوعات الضخمة في العلوم والفنون والآداب، والذي أستمر أكثر من قرن ونصف. ومن أصحاب هذه الموسوعات الضخمة "ابن منظور" المتوفي 711 هـ، 1311م، صاحب كتاب "لسان العرب" و"النويري" المتوفي 732 هـ، 1331م، صاحب " نهاية الأرب"، و"ابن فضل الله العمري" المتوفي 748هـ، 1347م، صاحب "مسالك الأبصار" و"القلقشندي" المتوفي 821هـ، 1418م، صاحب "صبـح الأعشى".تلقى السيوطي العلم على يد نبغة من علماء عصره، فكان عمدة شيوخه "محيي الدين الكافيجي" الذي لازمه الـسيوطي أربعة عشر عامًا كاملة، وأخذ منه أغلب علمه، وأطلق عليه لقب "أستاذ الوجود"، ومن شيوخه "شرف الدين المناوي" وأخذ عنه القرآن والفقه، و"تقي الدين الشبلي" وأخذ عنه الحديث أربع سنين فلما مات لزم "الكافيجي" أربعة عشر عامًا وأخذ عنه التفسير والأصول والعربية والمعاني، وأخذ العلم ـ أيضًا ـ عن شيخ الحنفية "الأفصرائي" و"العز الحنبلي"، و"المرزباني" "وجلال الدين المحلي" و"تقي الدين الشمني" وغيرهم كثير، حيث أخذ علم الحديث فقط عن (150) شيخًا من النابهين في هذا العلم، ولم يقتصر تلقي السيوطي على الشيوخ من العلماء الرجال، بل كان له شيوخ من النساء اللاتي بلغن الغاية في العلم، منهن "آسية بنت جار الله بن صالح"، و"كمالية بنت محمد الهاشمية" و"أم هانئ بنت أبي الحسن الهرويني"، و"أم الفضل بنت محمد المقدسي".
في الاعتزال غنيمة كبرى، كان هذا شعار السيوطي مع الحكام، حيث عاصر (13) سلطانًا مملوكيًا، وكانت علاقته بهم متحفظة، وطابعها العام المقاطعة، حتى قرر اعتزال الكافة، بعد أن زادت الخصومات والنقد اللاذع ضده، فدافع عن نفسه ثم قرر اعتزال التدريس والإفتاء والحياة العامة ولزم بيته، في روضة المقياس على النيل، وهو في الأربعين من عمره، وألف بمناسبة اعتزاله رسالة أسماها المقامة اللؤلؤية، ورسالة "التنفيس في الاعتذار عن ترك الإفتاء والتدريس".وظل معتزلًا في بيته مكتفيًا بالعبادة والتأليف حتى توفي في القاهرة في 19 جمادى الأولى 911 هـ، الموافق 20 أكتوبر 1505 م، ودفن خارج باب القرافة في القاهرة، ومنطقة مدفنه تعرف الآن بمقابر سيدي جلال نسبة إليه.