اعلان

جوائز الخليج وتنميط الأدب

محمود الغيطاني

نلاحظ في السنوات القليلة الماضية ازديادا ملحوظا في عدد الجوائز العربية الممنوحة والمُكرسة للأدب لاسيما الرواية العربية، ولعل كثرة هذه الجوائز تُعد ضرورة للأدب العربي والروائيين العرب الذين يعانون الكثير من الأزمات المالية التي يعيشونها مع أوطانهم، وعدم اهتمام سلطاتهم الشمولية بهم باعتبار أن الكتاب هم العدو الحقيقي والأول لأي سلطة شمولية، ولكن إذا ما التفتنا إلى الوفرة في هذه الجوائز لابد سنلاحظ أن معظمها جوائز تمنحها دول الخليج بأموالها الوفيرة، وليس في هذا ما يُعيب بالتأكيد، ولكن أن تعمل دول الخليج من خلال سيطرتها على جميع الجوائز الأدبية تقريبا في فرض ثقافتها القبلية، وأخلاقياتها، ونمطها الحياتي والثقافي على الجميع؛ من أجل أن تصبح جميع الدول العربية، بل وشكل الرواية والأدب العربي هو الشكل الذي تريده فقط من خلال أموالها؛ فهذا ما لابد له أن يستوقفنا كثيرا لتأمله وطرح التساؤل: هل من الممكن أن تنجح دول البترودولار في تنميط الأدب العربي؛ ومن ثم يصبح على الشاكلة التي ترغبها هذه الدول؟!

ربما كان السبب في مثل هذا التساؤل حول تنميط الأدب عائد إلى الشروط التي أعلنتها مؤخرا "جائزة الشارقة للإبداع العربي" في دورتها العشرين 2016/2017م والتي نص شرطها السادس على: "أن تراعِي المادة المُقدمة القيم الدينية والأخلاقية"، وإذا ما التفتنا إلى هذا الشرط المدهش والمجحف في آن؛ بالتأكيد ستلتصق ألسنتنا بحلوقنا، وقد انفتحت عيوننا حتى تكاد أن تخرج من محجريهما؛ فليس هناك عاقل من الممكن له أن يتصور مثل هذا الشرط كشرط من الشروط الأدبية أو الفنية؛ فالفن هو أبعد المجالات حول التنميط أو فرض وجهة نظر معينة عليه، كي يكون في النهاية سجينا لوجهة النظر هذه، كما أن فرض أي شكل من أشكال الشروط على الإبداع الفني باتساع مفهومه يُعد بمثابة القتل الكامل لهذا الفن، ومن ثم لا يكون هناك أي مجال للإبداع أو تقديم ما هو ذي قيمة من الممكن أن نقول عنه بفخر: إنه الفن!

حينما انطلقت في ثمانينيات القرن الماضي المقولة السخيفة "السينما النظيفة" تماشيا مع أخلاقيات المجتمع الجديدة التي اكتسبها المجتمع المصري من دول الخليج؛ أدى ذلك إلى فساد السينما التي أراد أصحاب هذه المقولة منها أن تكون سينما مُحجبة ممنوع فيها اللمس أو التقبيل أو أي لون من ألوان الحياة؛ ومن ثم بدأت السينما المصرية في النحو باتجاه الفن المصطنع غير الحقيقي؛ الأمر الذي أدى في النهاية إلى موت السينما المصرية التي لم تعد تقدم إلا القليل جدا من الأفلام السينمائية الحقيقية المخلصة لفن السينما، أو لماهية الفن كما هو فن، وهنا باتت الأفلام التي تعمل على تدمير المجتمع والتي لا تتحدث سوى عن البلطجة واعتبار قانون القوة هو القانون السائد هي الأفلام الموجودة والرائجة التي تقبلها عن طيب خاطر المجتمع الجاهل الذي يدعي أن هذه السينما هي السينما الحقيقية والتي يريدها المجتمع ما دامت محجبة وممنوع فيها اللمس أو التقبيل.

ما تفعله دول الخليج الآن في المجال الأدبي أو الروائي على وجه الخصوص لا يختلف كثيرا عما حدث للسينما المصرية التي انهارت تماما بسبب هذه المنظومة الأخلاقية البدوية الزائفة التي تريد تحجيب الأدب، ولعل وضع الخليج لمثل هذه الشروط الخبيثة التي يحاولون تمريرها وبثها في شروط الجوائز بشكل قد يبدو غير قصدي هو من أخطر ما تقوم به هذه الدول للقضاء الكامل والتام على شكل الرواية العربية وروحها تماما، لتكون الرواية في نهاية الأمر مجرد كتابة تم تفصيلها وصنعها حسب مجموعة من الشروط الخاصة التي يريدها أصحاب رؤوس الأموال الذين لا يفهمون فعليا في الفن، ولا يمتلكون من الأساس أي إرث ثقافي أو حضاري يستطيعون أن يفخروا به ويباهون به الآخرين قائلين: هذا أدبنا نقدمه لكم؛ وربما كان هذا الخواء التراثي في مجال الأدب لدى الخليج هو الدافع الحقيقي لتدمير الأدب والرواية العربية بفرضهم مثل هذه الشروط التي لا يمكن سحبها أو تطبيقها على الفنون.

الكارثة الحقيقية أن معظم الكتاب العرب يعانون ماليا، ويجرون خلف سباق الجوائز ظنا منهم أن الجوائز هي التي تصنع منهم كتابا، أو أنها هي التي تعطيهم جواز المرور لاعتراف الجميع بهم ككتاب من ناحية، ومن ناحية أخرى هم في حاجة حقيقية لأموال الخليج الوفيرة التي يلوحون بها أمامهم؛ الأمر الذي سيجعل الكثيرين جدا من الكتاب يسيل لعابهم من أجل صناعة رواية متوافقة مع الشروط؛ مما يؤدي في النهاية إلى فوز مثل هذه الأعمال، ومع التراكم الزمني والكمي وفوز العديد من الروايات بمثل هذه الجوائز والعمل الجاد على تصديرها إعلاميا باعتبارها النموذج الحقيقي الذي لابد من الاحتذاء به؛ سيؤدي ذلك إلى أن تفقد الرواية العربية معناها الفني الحقيقي وروحها وحيويتها؛ الأمر الذي سيؤدي إلى موت الرواية العربية الحقيقية التي ستصبح عاجزة عن المنافسة عالميا أو حتى مجرد الالتفات إليها.

لعل مثل هذا الشكل الخبيث من التنميط الأدبي الذي تقوده دول الخليج العربي لا يختلف كثيرا عن محاولاتهم من قبل في التكريس "للخواطر" باعتبارها لونا من ألوان الأدب، أو جنسا أدبيا ما، ومن ثم كانت هناك جمعية أخرى أيضا في الإمارات العربية المتحدة باسم الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي قد أعلنت عن جائزة أدبية باسم الكاتبة، وكان هناك فرعا من فروع هذه الجائزة التي تخص "الخاطرة" باعتبار أن الخاطرة جنسا أدبيا، ومن ثم يكون "جبر الخواطر على الله" هو القانون الذي تستنه دول الخليج من أجل تخريب الأدب وتنميطه كيفما يحلو لها بأموالها، ولعلنا نفهم جيدا أن الخاطرة هي لون من الكتابة التي لا يمكن لها أن تقدم فنا، بل هي تقدم حكمة وتأملات، وهي تدريب على الكتابة قد يفشل كاتبها أن يكون كاتبا حقيقيا فيما بعد، كما أن كل ما نكتبه على موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك" يوميا ليس إلا شكل من أشكال الخواطر، وهنا وبمثل هذا المنطق الفاسد يصبح كل من يمتلك حسابا على "الفيس بوك" كاتبا مغوارا، ويستطيع القول للجميع: أنا كاتب خواطر، أو بوستات، بل وحصلت على الجائزة الفلانية في كتابة الخواطر؛ مما يؤدي في النهاية إلى وجود كتابة جاهلة ومسطحة وزائفة ولا عمق فيها، ولا فن، وهذا ما يريده الخليج في نهاية الأمر بأمواله وجوائزه.

إن الكتابة الأدبية أو الفنية لا يمكن أن تمتلك فنيتها إلا من خلال التجريب، والانطلاق إلى آفاق أرحب، والجنون، واللامعقول، وتأمل النفس البشرية والكتابة عنها بكل جنونها وشبقها وشطحاتها، أي أن الكتابة الأدبية في نهاية الأمر مغامرة تخوض كل ما هو مألوف أو غير مألوف، هي مغامرة تنطلق إلى عوالم غير معتادة، منطلقة، ومن ثم فمحاولة وضع القيود والشروط للكتابة الأدبية يؤدي في النهاية إلى موتها وتكلفها، وفقدها للروح، وميلها باتجاه الصنعة والسطحية ومحاولة تجنب المحظورات والمحرمات، في حين أن المحظورات والمحرمات التي يعمل الخليج على تفادي الكتابة فيهما هما أهم ما يميز الأدب أحيانا؛ لأنه ينطلق في مناقشة أغوار النفس البشرية التي لا تخلو من هذه المحرمات.

إن ما تسعى إليه دول الخليج اليوم بجوائزها وأموالها ليس إلا محاولة مدروسة وممنهجة من أجل سلب الروح الإبداعية الحقيقية من الأدب العربي، لاسيما الرواية العربية اعتمادا على موروث التدين والعادات القبلية التي يحيونها، رغم أنهم يحيون نقيضها في نفس الوقت، ولكن لأنهم من يمتلكون الوفرة الكبيرة في الأموال فهم يظنون أنهم هكذا سيقودون المنطقة العربية بالكامل من خلال أفكارهم وأخلاقياتهم؛ لذلك آن للجميع من المبدعين الحقيقيين أن يقاطعوا مثل هذه الجوائز المشبوهة التي ستقتل مجالات الإبداع الفني، ومن خلال هذه المقاطعة ستموت هذه الجوائز من تلقاء نفسها.

إن مواجهة مثل هذا الأمر لا يكون إلا بالاتجاه إلى دول الخليج للقول لهم: ارفعوا أيديكم عن الفن؛ فأنتم لا تسهمون فيه بتقديم أي شكل من أشكال الفنون، وليس لديكم تاريخا فنيا كي تدعون اهتمامكم به، ومن ثم عليكم أمر من اثنين: إما تشجيع الفنون تشجيعا حقيقيا وبث روح التنافس بين الكتاب من أجل تقديم الأفضل، أو نسيان الفنون تماما وعدم الاهتمام بها وعليكم الاهتمام ببترولكم الذي هو أبقى لكم.

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً