اعلان

85 عاما على رحيل "أسد الصحراء وشيخ المجاهدين" عمر المختار

شيخ المجاهدين عمر المختار

رجل تم احتلال بلاده وهو فى الخمسين من عمره، فماذا تتوقع منه؟ بالتأكيد لا خيار له سوى البحث عن الحياة الآمنة فيما تبقى له من سنوات عمره، مستعينًا فى ذلك بالعزيمة والإيمان.

رجل فى العقد السبعين من عمره سًخرت واحدة من أقوى دول العالم جيوش جرارة وراءه؛ للقضاء على تمرده عليهم. إنه عمر المختار الذى حسم موقف بلاده أمام جيش الاحتلال الإيطالي بكلمات بسيطة قائًلا: "إننا نقاتل لأن علينا أن نقاتل فى سبيل ديننا وحريتنا حتى نطرد الغزاة أو نموت نحن، وليس لنا أن نختار ما هو دون ذلك".

أسد الصحراء، شيخ المجاهدين، شيخ الشهداء، هكذا لُقب عمر المختار المقاوم الليبي الذى حارب أكثر من عشرين عامًا وهو يبلغ من العمر 53 عامًا فى أكثر من ألف معركة خاضها ضد قوات الغزو الإيطالية منذ أن وطأت أقدامهم الأراضي الليبية عام 1931م.

ولد عمر المختار فى 20 أغسطس 1861م، واستشهد فى 16 سبتمبر1931م، حيث تم إعدامه شنقًا عن 73 عامًا.

تربى المختار تربية إسلامية مستمدة من تعاليم الحركة السنوسية القائمة على القرآن والسنة النبوية، وتعلم على يد كبار علماء ومشايخ السنوسية، ونهل من العلوم الشرعية المتنوعة كالفقه والحديث والتفسير، وبسبب ذكائه جذب المختار انتباه شيوخه، واشتهر بالجدية والحزم والاستقامة والصبر.

لمح فيه زعيم الحركة، محمد المهدي الإدريسي، نبوغًا فجعله شيخًا على زاوية القصور في الجبل الأخضر قرب المرج، واصطحبه معه فى رحلته إلى السودان، وكان من أبرز الشيوخ الذين تتلمذ على أيديهم عمر المختار السيد الزروالي المغربي، والعلامة فالح بن محمد بن عبدالله الظارى المدني، وغيرهم الكثير ممن شهدوا له برجاحة العقل ومتانة الخلق وحب الدعوة.

شهدت صحراء ليبيا معارك "المختار" التى خاضها وسطر عليها بدماء الشهداء، واستطاع هو ومن معه من مجاهدي ليبيا تكبيد العدو خسائر لا تحصى فى الأرواح والعتاد، واستطاع أن يثبت هو وفريقه أمام العدو مع أنهم لا يمتلكون سلاحًا أو عتادا يذكر، وقد حارب "المختار" الطائرة بسيفه حتى امتلك الخوف قلوبهم بمجرد سماعهم لاسمه.

عاش المختار حرب التحرير والجهاد، وعندما أعلنت إيطاليا الحرب على الدولة العثمانية 1911م، وقصفت البارجات الحربية مدن الساحل الليبي، وبعد علمه بالغزو الإيطالي، كان المختار في مدينة الكفرة في قلب الصحراء في زيارة للسنوسيين، وعندما كان عائدًا من هناك مرَّ في طريقه بواحة جالو، وعلم وهو فيها بخبر نزول الإيطاليين؛ فعاد مسرعًا إلى زاوية القصور لتجنيد أهلها من قبيلة العبيد لمقاومة الإيطاليّين، ونجح في تجميع 1000 مقاتل معه، كما أسَّس عمر المختار معسكرًا خاصًا له في منطقة الخروبة، ثم انتقل منها إلى الرجمة حيث التحق بالجيش العثماني، وأصبح المعسكر قاعدةً لهم يخرجون منها ويغيرون باستمرار على القوات الإيطالية.

ظل عمر المختار يقاتل الإيطاليين، وتركَّزت غاراته وهجماته على منطقة درنة، وكان أبرزها معركة مهمة نشبت في يوم الجمعة 16 مايو عام 1913م دامت لمدّة يومين، وانتهت بمقتل 70 جنديا إيطاليا، وإصابة نحو 400 آخرين، وقد دارت في 6 أكتوبر من العام نفسه معركة "بو شمال" في منطقة "عين مارة"، وفي شهر فبراير عام 1914م كانت هناك معارك "أم شخنب"، و"شلظيمة"، و"الزويتينة".

كان المختار يتنقل أثناء غاراته على الإيطاليين بين منطقتي زاوية القصور، وتكنس حتى وقوعهما في أيدي الإيطاليين في شهر سبتمبر عام 1913م، كما تواصل المختار كثيرًا مع قبائل منطقة "دفنا"، وفي هذه الفترة انتكست المقاومة الليبية نتيجة القحط الذي أصاب البلاد في عامي 1913م حتى 1915م، ثم استيلاء القوات الإيطالية على أغلب المناطق الحيوية في وسط وشمال برقة في شهر يوليو عام 1914م.

اكتسب المختار خبرة كبيرة في أساليب حرب الصحراء أثناء قتاله للفرنسيين في تشاد، وكان له معرفة سابقة بجغرافيَّة الصحراء ودروبها ومسالكها، وأخذ المختار يقود رجاله في حملاتٍ سريعة على الكتائب العسكرية الإيطاليَّة، فيضربوهم ضرباتٍ موجعة ثمَّ ينسحبون بسرعة إلى قلب الصحراء.

عمل المجاهدون على مهاجمة الثكنات العسكريَّة الواقعة على أطراف الصحراء، وقطع طرق المواصلات والإمدادات على الجيش الإيطالي، ونجحت هجماتهم فى إصابة المسؤولين العسكريين الإيطاليين بالذهول، وإحراج الجيش الإيطالي أمام الرأي العام في بلاده بعدما لم يتمكن من إخماد حركة بعض الثوَّار البدو غير المدربين عسكريًّا.

سافر المختار إلى مصر في مارس 1923م؛ لمقابلة الأمير محمد إدريس السنوسي، واتفق معه على تفاصيل الخطة التي يجب أن يتبعها المجاهدون في قتالهم للطليان على أساس تشكيل المعسكرات.

كررت إيطاليا الاتصال بالمختار وعرضت عليه تقديم المساعدة له إذا ما تعهد باتخاذ سكنه في مدينة بنغازي أو المرج، وملازمة بيته تحت رعاية وعطف إيطاليا، وأنها ستجعله فضلا عن ذلك الشخصية الأولى في ليبيا كلها، ومن ثم تتلاشى أمامه جميع الشخصيات الكبيرة التي تتمتع بمكانتها عند إيطاليا في طرابلس الغرب وبنغازي، أما إذا أراد البقاء في مصر فما عليه إلا أن يتعهد بأن يكون لاجئًا ويقطع علاقته بإدريس السنوسي، وفي هذه الحالة تتعهد حكومة روما بأن توفر له راتبًا ضخمًا يمكنه من حياة رغدة، كما أخبرته الحكومة الإيطالية أنها على استعداد بأن يكون الاتفاق في شكل سري، لكن المختار رفض وأصرّ على الجهاد وقتال المحتل الأجنبي.

شهدت الفترة الممتدة بين عامي 1924م، و1925م مناوشات متعددة ومعارك دامية بين الثوَّار والقوَّات الإيطاليَّة، وكان المختار يُلقَّب بنائب الوكيل العام، وكان هناك مجلس أعلى استشاري في المعسكر يترأَّسه بنفسه، ويضم مختلف شيوخ وأعيان القبائل، وقد أقرَّ حاكم برقة الإيطالي "إتيليو تروتسي" في مذكّراته المنشورة بعنوان "برقة الخضراء"، بأنَّ تكتيك ملاحقة الثوار وضربهم المستمرّ في الجبل الأخضر، وهو التكتيك المتبع منذ استلام الجنرال "مومبيللي" القيادة عام 1926م قد أدى إلى إنهاك القوة الإيطالية، واستنفاذ قواها بقدر ما أنهك قوات الثوار.

قام المختار بتأسيس معسكرٍ للمجاهدين في الجبل الأخضر، وتولى بنفسه إدارته والإشراف على تدريب المقاتلين وتنظيم هجماتهم ثم اتَّخذ منطقة شحات قاعدة عسكرية.

في عام 1927م تبدَّلت قيادة الجيش الإيطالي في برقة، وتولى أمرها القائد العام "ميزتي"، وضاعفت الحكومة الإيطاليَّة من جهودها؛ فبذلت الأموال والوعود لزعماء القبائل حتى يكفوا عن القتال، فأصابت نجاحًا كبيرًا أدى إلى سقوط "الجغبوب"، و"مرادة"، و"زلة"، و"جالو"، و"أوجلة"، و"مرادة"، في أيديهم، وهو ما دفع المختار إلى شن غارات على درنة وما حولها حتى أرغم الطليان على الخروج بجيوشهم لمقابلته، فاشتبك وانتصر عليهم في معركة شديدة، وفرّ الطليان تاركين عددًا من السيَّارات والمدافع الجبليَّة والذخيرة.

كما هزم المختار القوات الإيطالية فى معركة بئر الغبي، ومعركة أم الشافتير(عقيرة الدم) حتى أصبحت القوات الإيطالية منهكة القوى من شدة المعارك، حيث رحّل المختار النساء، والأطفال، والشيوخ إلى السلوم؛ لحمايتهم وليسهل تحرك المجاهدين، كما أيقن المُختار بضرورة العمل على التعريف بالقضيَّة الليبيَّة والنضال الليبي ضد إيطاليا في البلاد الإسلاميَّة والأوروبيَّة على حدٍ سواء، فطلب من بعض المجاهدين الهجرة إلى الخارج للتعريف بالقضيَّة َّفي البلدان التي يحلّون بها، فكان من نتيجة هذا تشكيل الجاليات الليبيَّة في الخارج.

أصر"المختار" على البقاء داخل أرضه والنضال من أجل ما يؤمن به وعدم المغادرة وكان يقول: "لا أغادر هذا الوطن حتى ألقى وجه وربي، والموت أقرب إلي من كل شيء فإنى أترقبه بالدقيقة "، وكان من أشهر أقواله: "كن عزيزًا وإياك أن تنحني مهما كان الأمر ضروريًا؛ فربما لا تأتيك الفرصة لكي ترفع رأسك مرة أخرى".

وكان دعائه: "اللهم اجعل موتي في سبيل هذه القضية المباركة".

في 1930م تمكن الإيطاليين من الاشتباك مع المجاهدين في معركة كبيرة عثر الطليان عقب انتهائها على نظّارات عمر المختار، كما عثروا على جواده؛ فثبت لهم أنه على قيد الحياة، ووقع المختار أسيرأً في يد الطليان بعدما نجا آلاف المرات من الموت والأسر، وأجريت له محاكمة صورية وأعدم شنقًا. لكن تبقى كلماته الثائرة الخالدة: "إننا نقاتل لأن علينا أن نقاتل في سبيل ديننا وحريتنا حتى نطرد الغزاة أو نموت نحن".

كان لإعدام المختار أكبر الأثر فى خروج المظاهرات والمسيرات الاحتجاجية؛ تنديدًا لإعدامه فى مختلف الدول العربية، وكان على رأس هذه الدول مصر، وتونس، وفلسطين، وسوريا، كذلك أقيمت المآتم فى مختلف أنحاء بلاد الشام، وأقيمت عليه صلاة الغائب في جامع بني أميه في دمشق، ودعا الشيوخ على المنابر بمقاطعة إيطاليا وكافة بضائعها، وأُغلقت المحال التجارية حدادا عليه.

فى غزة أطلق على أحد أهم شوارعها اسم "شارع عمر المختار"، وأقيمت صلاة الغائب عليه فى تونس أيضا، وفي مصر كانت ردة الفعل شعبية وعارمة، وتجلى ذلك فى الصحف والجمعيات والشعراء، كما كتب عنه أحمد شوقي، وخليل مطران، قصائد شعر خاصة فى رثائه.

فى عام 1981م جسد الممثل المكسيكي الأمريكي "أنطوني كوين" شخصية عمر المختار في فيلم "أسد الصحراء" وقد كان له الأثر الكبير فى معرفة العالم بشخصية شيخ المجاهدين، الشهيد عمر المختار.

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً