الصعلكة وتأثيرها السياسي المُمتد

  الصعلكة هي حركة اجتماعية وسياسية فردية في الأساس. قام بها العربي في الجاهلية وإليه تُنسب كرد فعل على انتشار الظلم المجتمعي داخل نطاق قبيلته، وقد تمثلت مجريات الحركة في رفض العادات والتقاليد القبلية ومن ثم الثورة عليها والخروج على نظامها بالكلية لأنها أصبحت وفقا لاعتقاده قبيلة أو نظام عديم الحواس.

نستطيع أن نقرر إذًا بأن الاحساس الفائق بالظلم لدي هو الدافع لهجر العربي قديما هذا النظام القبلي الذي أدار له ظهره وبات عاجزا فقيرا في تلبيته حاجات أفراده عن عمد، ويُشار إلى الشاعر الجاهلي الكبير "عروة بن الورد" بأنه الاب الشرعي لهؤلاء الصعاليك المتمردين كما كان أشهر المدافعين عن الصعلكة بقصائده الشعرية ومن ثم فهو المنظر الأول لهذه الحركة؛ كونه قد تبنى الحركة ودافع عنها بقوة واستماتة ويبدو هذا من قصيدة له مطلعها:

لحى اللَّهُ صُعلوكاً، إذاجَنّ ليـلُهُ مُصـافي المُشاشِ، آلفاً كلّ مـجزر

يَعُدّ الغِنى من نفسه، كــّل ليلة أصـــابَ قِراها من صَديقٍ ميسَّر

ينامُ عِشاءً ثـم يصبحُ ناعســاً يحُت الـــحَصى عن جنبِهِ المتعفِّر

وهو في أبيات شعره هذه يعقد المقارنة بين نمطين من الصعاليك الأول يبحث عن الشهرة والمال كونه باع القضية بكل مشتملاتها، والنمط الآخر جاد في السير وفقا لمبادىء الصعلكة والآخر باع القضية وعنه يقول:

ولله صُعلوك، صفيحةُ وجهـِهِ كضــــَوءِ شِهابِ القابس المتنوِّر

مُطِلاَّ على أعدائِهِ يـَزجرونَـه بســــاحتِهم، زَجرَ المَنيح المشهَّر

وإن بَعُدوا لا يـأمنون اقترابـَه تشـــــوُّفَ أهل الغائب المتنظَّر

فذلك إن يـــلقَ المنيّة يَلْقَهـا حمـــيداً، وإن يَستَغنِ يوماً، فأجدِر.

وقد تميز الصعاليك بميزات متفردة على أقرانهم مما ينتمون لنفس القبيلة وهنا يتضح لنا سر الانقلاب والثورة على القيبلة فهم نوابغ وعندهم إحساس بالفوراق الفردية بينهم وبين الآخرين، فعلى سبيل المثال كان الشاعر والصعلوك "تأبط شرا" قويا في الحرب مشهودا له بذلك فلا يشق له غبار إلا أنه في ذات الوقت كان صاحب حظ عسر، في حين تميز الشنفري بمهارة العدو حتى قيل في حقه مثلا هو: "أعدى من الشنفري"، كما كان السُليك بن السلكة هو الآخر عداء ماهرا وحكيما إلا انه كان زنجيا معابا عليه هذا كعنترة العبسي، وعن مبلغ حكمته قالوا بأنه كان يلقي بحكمه حتى وهو نائم ، ويُشار كذلك إلى أن أحد هؤلاء الصعاليك كان يصارع الغيلان أو الجن في الثقافة العربية على نحو ما أوضحه الجاحظ في مصادره.

كما تميز شعر الصعاليك بميزات متفردة في وقتها فقد تمت مخالفة نظام القصيدة العربية والسبب ظهور موضوعات فكرية جديدة وأحداث مختلفة. حيث تميز شعرهم بأشياء تستحق الإشادة من ذلك: المباشرة دون تمهيد أي دون طلل أو مدح كما كان متبع وقتها، كما كان الخيال فطريا ثريا في صوره بلا تكرار أو محاولة للتقليد، كما شاع عنصر الدراما والقص في أشعارهم، وهذا يضعنا أمام شعراء نوابغ بحق قادرين على التطوير.

ونستطيع أن نتلمس في حركة الصعاليك هذه شيئا تقريرا هاما نطبقه على واقعنا اليوم ألا وهو أن النظام الذي لا يعترف بأبنائه ومن هم يشكلون بنيته الأساسية يفشل؛ فالدولة التي لا تصل لكل أفرادها دولة فاشلة لا تقوم بدورها المقرر والواجب عليها.

لقد أعجبني برنامج وثائقي شاهدته منذ فترة على إحدى القنوات الفضائية العربية رأيت فيه حكومة اليونان وفي ظل أزمتها الطاحنة مع الديون والدائنين لها تصل إلى أحد مواطنيها الذي أقعدته الازمة المالية عن عمله، وتحاول أن تساعده وتوقفه من جديد على قدميه، أي انها وهي تعاني من الأزمات لا زالت دولة قوية ثابتة الأركان تمارس دورها على أكمل وجه، وهنا تظهر قوة إرادة الدول وتماسكها الموجود في قوة الإدارة لهذا لم يك الرئيس الأمريكي أوباما مخطئا عندما قال: حتى لو فقدت أمريكا كل منجزاتها العلمية فإنها تستطيع أن تصبح أمريكا مرة أخرى هذا لأن الإدارة هنا قوية.

[email protected]

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً