"العصفور الحي".. محمد الدرة طفل صنع بصورته معجزة أمام العالم الصامت في وجه الظالم، ففي الثلاثين من سبتمبر كانت الحكاية عندما استنجد طفل بوالده من رصاص الاحتلال الغادر وما بين الغبار والنار لفظ الطفل أنفاسه الأخيرة في أحضان والده، ومن المفارقة أن تحل اليوم ذكرى استشهاد الدرة بالتزامن مع جنازة "سفاح إسرائيل" شيمون بيريز.
"اطمئن يا أبي أنا بخير" تلك كانت آخر كلمات نطق بها عصفور الجنة قبل أن تغتاله يد الغدر، ففي ثاني أيام الانتفاضة الثانية للأقصى التقطت عدسة المصور الفلسطيني طلال أبو رحمة والمراسل بقناة فرانس 24، مشهد احتماء جمال الدرة وولده محمد البالغ من العمر اثنتا عشرة عامًا، خلف برميل إسمنتي، بعد وقوعهما وسط محاولات تبادل إطلاق النار بين الجنود الإسرائيليين وقوات الأمن الفلسطينية، وعرضت هذه اللقطة التي استمرت لأكثر من دقيقة مشهد احتماء الأب وابنه ببعضهما البعض، وإشارة الأب لمطلقي النيران بالتوقف، ثم إطلاق وابل من النار والغبار، وبعد ذلك رقود الطفل على ساقي أبيه وسط صورة هزت مشاعر العالم."الدرة" طفل لم يقدم اختراعًا، ولم يفعل ما فعله كثير من المشاهير، ولم يتجاوز الثانية عشرة من عمره، ولكنّ أصبح في لحظات حديث العالم كله، مشهد استشهاده اختصر آلاف المشاهد والمآسي التي سجلها الصهاينة في حق الشعب الفلسطيني، وعرض بموته صورة حية لطبيعة العدو الصهيوني التي نسيها أو تناساها البعض، في ظل "هراء إعلامي" صدر عن وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعالون واصفا مشهد مقتل الدرة بالمفبرك، وهو ما دفع والد الدرة إلى زيارة قبر نجله، متسائلا: إذا كان الدرة حيا فمن إذا بالقبر؟ ويعلن استعداده لتشكيل لجنة دولية مستقلة يكون من ضمنها عرب، لفتح قبر محمد وإثبات أنه مات فعلا وليس كما يدعي اليهود.عرف "العصفور" من بين أطفال المخيم بالطفل الشقي يحبه الجميع ويعشقون اللعب معه، كان شجاعا وجريئا، كان عنيدًا يهابه الأطفال في سنه، ومن هم أكبر منه سنًا، عرف منذ طفولته بأنه "حِرِك" ونشيطًا ومختلفًا عن كل إخوته، وكان دائمًا يحب الخروج واللعب مع أصدقائه، وكان يحب أكلات معينة وكان يحب المدرسة ويحب اللعب بالكرة.
نشأ "الدرة" وسط مخيم البريج للاجئين في قطاع غزة، وسط أسرة مكونة من أبيه وأمه وستة من الأبناء سواه: إياد "14 سنة" في الصف الثاني الإعدادي، وأحمد "10 سنوات" في الصف الرابع الابتدائي، وآدم "9 سنوات" في الصف الثالث الابتدائي، ونور "7 سنوات" في الصف الأول الابتدائي، وبسمة "4 سنوات" في الروضة، وباسم "سنتان"، تعيش الأسرة في بيت متواضع فارغ من كل شيء، عدا البؤس والحرمان كما بقية البيوت في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في كل مكان، كانت غرفته التي لا تتجاوز الثلاثة أمتار خالية تمامًا من أي مقعد أو مكتب للدراسة أو خزانة للملابس أو حتى سرير للنوم، فهي لم تحتوِ إلا على فراش صغير بال، وعلى حقيبته المدرسية، وبضعة كتب وكراسات مدرسية تنتظر قلم محمد.
دائما ما كان "الطفل" يردد نفسي أموت شهيد طلب الشهادة قبل وفاته بعام ونالها، الدرة كان يتصرف مثل الرجال كان يستغل أوقات إجازته الصيفية في الذهاب مع أعمامه للعمل في ورشة لصناعة الألومنيوم وكان يمتلك جرأة غير عادية".
ففي عام 2000 وقعت أحداث الانتفاضة الفلسطينية، حينما قام رئيس الوزراء الإسرائيلي أرئيل شارون باقتحام باحة المسجد الأقصى بحماية 3000 جندي، الأمر الذي دفع جموع المصلّين إلى التصدي له، وهو ما أوقع آلاف الشهداء الفلسطينيين على مدى 5 سنوات ظلّت فيها الانتفاضة مشتعلة، ولم يُكتب لمحمد الدرة صاحب الـ12 ربيعًا، أن يشهد هذه الانتفاضة إلا ليومين فقط، بعدما استشهد على أيدي قناصة إسرائيليين كانوا يعتلون برج المراقبة، في الوقت الذي كان والده يحاول أن يحميه.