لم أكن أعرف قبل إحدى عشرة سنة عن الشعر أكثرَ ممَّا تعلمه أمي بنتُ الأربعين شتاء وقتها. لم أكن أعرف قواعده ولا حتى آلياته وكانت علاقتي باللغة أقرب ما تكون بعلاقة المُحبِّ الجاهلِ بسر محبوبته وبتفاصيل حسنها وصدى وقعها الأخاذ. كل ما كان يربطني باللغة هو الإحساس والانفعال بها عند سماع تناغماتها وجرسها الحركيّ والسكونيّ. كل شيء كان نابعا من إحساس عميق أجهل مصدره وأجهل بالتالي دوافعه.
أذكر أنه في إحدى ليالي نوفمبر شديدة البرد وبينما كان المطرُ هو البطلُ الوحيد في تلك الليالي. كانت أمي التي لا تقرأ ولا تكتب تستمع إلى برنامج إذاعيّ اسمه (شعر وموسيقى) وكان صوت ملائكي يصدر عن الراديو كان هذا الصوت للإذاعية (حكمت الشربيني) وكانت أمي تنصت باهتمام لما يقوله هذا الصوتُ الملائكي. وبينما كان إخوتي الستةُ وأبي -عامل الخرسانات وقتها- يغطون في النوم كنت أنا في حجر أمي أصغي كما تُصْغي هي لهذا الصوت .كان الكلامُ والموسيقى يتداخلان فلا أعرفُ أيُّهما كانتْ الموسيقى وأيّهما كان الكلام.
استمرّ البرنامج عشرين دقيقة. عشرون دقيقة وأنا ساكن لا أصدر صوتا أو حركة، مستسلما لما أنا فيه ومُعْجبٌ بما كانت أمي عليه.
نمتُ تلك الليلة كما لم أنمْ من قبل، أحلامي كلها صالحتني في تلك الليلة، وفي الصباح وجدت نفسي أقول لأمي: "صباح الخير يا سيدتي". ضحكت أمي وقالت: ليلة أمس كنت تحلم وتتحدث بصوت عالٍ يا محمود، وظني أنَّك ستظل هكذا دائما. أمازلت تذكر ما كانت تلقيه حكمت الشربيني بالأمس؟ نعم يا أمي ما زلت أذكر. حدثيني يا أمي ما الذي كانت تلقيه الإذاعية؟ كانت تقرأ شعرًا يامحمود. لا يا أمي هذا ليس شعرًا. لقد قرأت في المدرسة بعضَ الأشعار وهي ليست كذلك! لا تتعبني معكَ يا ولدي! أنا لا أعلم أكثر من ذلك. لكنه شعر مثلما تقول حكمت، ويمكنك أن تسأل أساتذتك في المدرسة.
آه يا أمي أنا هنا الآن بعد إحدى عشرة سنة. سألتُ فيها آلاف الأسئلة ومازلت لا أعرف ما هو الشعر، ولماذا الشعر بالتحديد.
ظللتُ من وقتها أتحدَّثُ في البيت باللغة التي سمعتها من حكمت الشربيني، وكنت أحفظ ما تحكيه لنا أمي في ليالي الشتاء من حواديت وأحاول تقليدها بلغة حكمت الشربيني. واتسع وجداني فجأةً وكلما سمعتُ كلمة حبٍّ أو عتابٍ كنتُ أشعر أنَّ الكلمة موجهة إليَّ أنا وتخصني أنا وحدي.
الآن وقد أتى الصيف –فصل السعادة والشَّقاء معًا- سأذهب للعمل في الإسكندرية مع أخي الأكبر محمد وفي اسكندرية سوف أسأل المهندس حين يأتي لنسلمه الشُّغْلَ. أذكر أنني نزلت من الدور السادس عبر السلالم لألحق بالمهندس. وها أنا أقف أمام سيارته فجأةً وأذهب لباب السيارة ويُنْزِلُ هو زجاج النافذة ويسألني: ماذا تريد؟ - أريدُ أنْ أسألك سؤالا يا باشمهندس: ما هو الشعرُ؟ كيف يمكنني أن أقرأ الشعر ومن أين أشتري الكتب؟
تعَّجبَ المهندسُ ونظر إليَّ بغرابة وقال: الشعر! تسألُ عن الشّعر! غدًا سأقول لك.