فيما استقبلت البنوك المصرية في الآونة الأخيرة الكثير من الأموال كمدخرات للمواطنين بصورة وصفت بالطفرة في الودائع المصرفية، وحدت بمعلقين ومحللين للتساؤل عن الفرص الاستثمارية المتاحة لهذه الودائع الهائلة والتي قدرها البعض بـ180 بليون جنيه في ثلاثة أسابيع فقط، فإن تمويل المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر للصناعات الإبداعية قد يشكل إجابة ضمن عدة إجابات ناجحة لهذا السؤال: "ماذا ستفعل البنوك بكل هذه الأموال الهائلة".
وفي وقت ذهب فيه بعض المحللين الاقتصاديين لإمكانية استخدام تلك الأموال في إعادة تشغيل المصانع التي أغلقت أو تعثرت أنشطتها إلى حد كبير منذ يناير 2011، فإن هناك أيضا من أشار لإمكانية تمويل المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر بقروض مصرفية بسيطة ومتواضعة الفائدة وهو اقتراح يمكن أن تستفيد منه الصناعات الإبداعية.
وإذ تتحرك مصر لدعم الصناعات الثقافية الإبداعية؛ "كقطاع واعد وصاعد في الاقتصاد العالمي"؛ كانت الحكومة قد أعلنت في الصيف الأخير أنها تدرس تأسيس "شركة قابضة للصناعات الثقافية"، برأس مال يصل إلى 250 مليون جنيه.
ومن نافلة القول أن دعم الصناعات الثقافية الإبداعية يعني دعم "القوة الناعمة لمصر"، بقدر ما ينطوي على مكاسب اقتصادية تحققها بالفعل الدول التي قطعت أشواطا بعيدة على هذا المضمار.
والصناعات الثقافية الإبداعية كقطاع في الاقتصاد تتضمن مجالات شتى مثل الفن التشكيلي والتصميمات والحرف اليدوية والعاديات والتحف والأزياء والأفلام والفيديو والتصوير الفوتوغرافي والألعاب التفاعلية والاعلانات والبرمجيات والموسيقى وتهتم بشكل جذري وحاسم بالابتكار خاصة ما يتعلق "بالأدوات والشبكات".
وقد يكتسب الأمر المزيد من الأهمية مع توالي طروحات ثقافية تتناول قضايا الإصلاح الاقتصادي وأهمية "تعظيم كفاءة استخدام وتخصيص الموارد الوطنية"؛ ومقارنات بين تجارب تنموية متعددة في العالم وبعضها يعمد للاستفادة القصوى من الصناعات الإبداعية والحرف الجميلة، فضلا عن مراجعات لتجارب مصر التنموية التي لا يجوز التقليل من أهميتها.
وإذا كانت بعض هذه الطروحات تشير لإرهاق متزايد للطبقة الوسطى وتصاعد أعباء هذه الطبقة مع استحقاقات الاصلاح الاقتصادي، فإن أبناء هذه الطبقة التي توصف تقليديا بأنها عماد الاستقرار في أي مجتمع ومحرك تقدمه قد يجدون في المشاريع الصغيرة للصناعات الإبداعية فرصا لتحقيق الذات والنمو الإنساني.
وتوجيه الاهتمام نحو الصناعات الإبداعية يمكن أن يجعل من "مصر المبدعة"، مركزا أو محورا لمنطقة تشكل قلبا ثقافيا عالميا جنبا إلى جنب مع كونها قلبا صناعيا وتجاريا وسياحيا في عالم القرن الواحد والعشرين وبما يحقق العائد الأمثل من استغلال الموقع العبقري لمصر الخالدة.
وتلك الصناعات الإبداعية تتضمن طيفا واسعا من الأنشطة يدخل فيها ما يعرف بـ "الحرف الجميلة"، مثل الحفر على الخشب والزجاج والفخار والمشغولات النحاسية والسجاد ومنتجات الكروشيه والقلائد والحلي والقناديل والمشكاوات وكلها منتجات أبدع فيها المصريون عبر تاريخهم المديد.
وكانت القاهرة قد احتضنت "المعرض الدولي للحرف اليدوية" الذي اختتم مؤخرا؛ فيما كان هذا المعرض ، الذي اشتركت وزارة الثقافة مع وزارتي التضامن الاجتماعي والبيئة في الإشراف عليه، لافتا بتنوع منتجاته التي تعبر بوضوح عن مدى ثراء الشخصية الإبداعية المصرية.
ولا ريب أن مثل هذا المعرض يؤكد أهمية الصناعات الإبداعية؛ بقدر ما يعزز العلاقة بين الأجيال الشابة والتراث المصري المضيء، كما يبرهن على قدرة المصري المعاصر على إبداع المزيد من الأفكار التي تتجلى في منتجات مبهجة، وجدارة هذه الأفكار بالدعم والتمويل عبر قروض مصرفية صغيرة وبشروط ميسرة.
ومع نفحات عطرة تشير إلى اقتراب يوم الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف، فإن "عروسة المولد"، بل وأشكال حلوى المولد ككل التي أبدعها المصريون منذ العصر الفاطمي كشعب مؤمن ومحتفل بالحياة معا، إنما تحمل الكثير من الإشارات الدالة على حقيقة تنوع الصناعات الإبداعية وتطورها وإمكانية أن تكون محفزا لمزيد من المشاريع الصغيرة التي تسهم في توفير فرص العمل للشباب على وجه الخصوص وتفرز منتجات مصرية تعبر عن النجاح في إدارة التنوع؛ كما تعبر ببلاغة وبساطة عن "معنى لقاء الأصالة والمعاصرة في إطار الهوية المصرية بعيدا عن تلك الصراعات المفتعلة والمعارك الوهمية بين التراث والعصرنة.
وإذا كنا نعيش في عصر تتضاعف فيه أعداد البشر ويتزايد عدد السكان في مصر بصورة مثيرة لقلق البعض وتساؤلات حول تأثير هذا التنامي السكاني على فرص العمل للشباب والأجيال الصاعدة والمقبلة، فإن ثمة طروحات توميء إلى أهمية الاستفادة من تجارب عالمية ناجحة للمشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر والقائمة على الأفكار الابداعية كحل ناجع ضمن عدة حلول لإشكاليات النمو السكاني المتعاظم وانحسار فرص العمل التقليدية.
وكما تشير بعض هذه الطروحات، فإن المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر للصناعات الإبداعية بحاجة إلى آليات متناغمة بين الحكومة والبنوك ومؤسسات التمويل المختلفة وإمكانية استحداث صندوق لتمويل تلك المشاريع للصناعات الإبداعية مع دعمها إعلاميا بالترويج لمنتجاتها وتشجيع صادراتها.
ولئن كان رئيس الحكومة المهندس شريف اسماعيل قد أوضح أن برنامج الاصلاح الاقتصادي لحكومته يتضمن أن "تعمل الشركات والهيئات القابضة بشكل اقتصادي لأن أي مشروع لا تغطي إيراداته مصروفاته سيمثل عبئا مباشرا على موازنة الدولة"، فإن الخبرات المتراكمة لدول أخرى في مجال الصناعات الثقافية الإبداعية تؤكد أن هذا القطاع بمقدوره أن يحقق أرباحا جمة.
والأرقام الدولية المجمعة تفيد بأن حجم السلع والخدمات الثقافية المصدرة سنويا يقدر بنحو 640 مليار دولار وتستحوذ الولايات المتحدة وحدها على نحو 142 مليار دولار من صادرات هذه السلع والخدمات الثقافية وبشكل ما يفوق ما تصدره من سلع وخدمات في مجالات الزراعة والطيران.
وفيما تهيمن الولايات المتحدة على مجال الصناعات الإبداعية، فإن هذه تلك الصناعات القائمة على التفكير بصورة غير تقليدية وانتاج أفكار جديدة بعيدا عن النمطية، تسهم بنسبة قدرها 3 في المائة من الاقتصاد الخاص بالاتحاد الأوروبي، وتبلغ القيمة السوقية لهذه الصناعات هناك نحو 500 مليار يورو ويصل عدد العاملين فيها لنحو ستة ملايين شخص.
وفي بريطانيا تقدم الصناعات الثقافية والإبداعية دخلا قوميا يزيد أربع مرات عن الدخل الذي تقدمه الزراعة وصناعة صيد الأسماك وأعمال الغابات فيما تقدر نسبة العاملين في هذا القطاع الثقافي والإبداعي بنحو 6,4 في مائة من مجموع القوة العاملة في البلاد.
وبنك الاستثمار الأوروبي يقوم بتقديم الدعم للصناعات الابداعية في دول الاتحاد الأوروبي وتمويل دراسات الجدوى لهذه الصناعات فيما تجاوز إنفاق الصين على هذا النوع من الصناعات في عام 2009 ال 97 مليار دولار.
والصناعات الإبداعية موضع اهتمام عالمي وخاصة في عالم الشمال، كما يتجلى في الصحافة الثقافية الغربية التي باتت تتحدث باستفاضة عن المدارس والاستثمارات وخطط العمل والمحفزات والانجازات في هذا القطاع الثقافي الذي يقوم على الإبداع وتلبية متطلبات البشر للجمال.
كما أن بلدا كالهند بات يحتل مكانة متقدمة للغاية على مستوى الصناعات الإبداعية التي تحظى أيضا باهتمام زائد في اندونيسيا، ناهيك عن الصين التي تتحرك حثيثا في هذا القطاع لدعم قوتها الناعمة والاستفادة من الفرص الاستثمارية غير التقليدية.
ووفقا لما ورد في كتاب "صعود الطبقة المبدعة" لريتشارد فلوريدا، وهو استاذ جامعي امريكي وباحث ومنظر في الدراسات الحضرية، فإن الاستثمار المنتظم في الأبحاث والتطوير للإبداع بالولايات المتحدة ارتفع من خمسة مليارات دولار عام 1953 إلى أكثر من 250 مليار دولار في بداية الألفية الجديدة.
ولا ريب أن الاتجاه نحو دعم الصناعات الإبداعية المصرية يعنى تجسيد الاهتمام بدعم القوة الناعمة المصرية في أطر مؤسسية قادرة على التنافس في عالم اليوم بمتغيراته الجديدة والمتوالية، بقدر ما يخضع أداء مثل تلك الأطر للقياس العملي والتقييم على أسس اقتصادية.
ولعل الصناعات الإبداعية تجد لها حيزا مناسبا ضم المدن الجديدة فضلا عن قناة السويس الجديدة فيما تنطلق فلسفة هذا المشروع العملاق من حقيقة كشفت عنها دراسات متعددة وأكدت ضرورة تحويل قناة السويس من مجرد معبر بحري تجاري إلى مركز للتنمية المتعددة الجوانب عبر أنشطة صناعية وتجارية ولوجستية تتكامل مع خدمات للإمداد والتموين وتجسد فكرة "القيمة المضافة".
وإذا كان إنجاز هذا المشروع في عام واحد بدلا من ثلاثة أعوام؛ قد جسد في الواقع شعار "نعم نستطيع"، فإن مصر تستطيع أيضا دخول عصر الصناعات الإبداعية عبر استغلال موقع قناة السويس كأحد معطيات عبقرية المكان المصري، فيما لهذه الصناعات الإبداعية المتصلة بالتراث الثقافي أن تعبر عن شخصية مصر ومواهب المصريين بقدر ما تسهم في دعم القوة المصرية الناعمة.
ومن نافلة القول أن قناة السويس والمدن الجديدة تعزز المركز التنافسي لمصر في مجال الصناعات الإبداعية، كما أنها كبؤرة تتجمع فيها ثقافات عديدة مفيدة للغاية في الإجابة عن أسئلة مطروحة عالميا في هذا المجال الصناعي الإبداعي مثل: ما الذي يريده الناس بالفعل؟ وما هي السمات الحقيقية لسوق الصناعات الإبداعية؟ و"ما الذي يمكن أن نتعلمه من المنافسين؟
وكما يقول سكوت فيليبس؛ أحد الخبراء الغربيين البارزين في مجال الصناعات الإبداعية؛ فإن ثمة ضرورة لتطوير وتحديث خطط العمل من حين لآخر على أساس وطيد من قاعدة بحثية، فضلا عما تتيحه فرص التواصل المباشر مع الزبائن من التعرف على مردود منتجاتنا في الواقع والتغيرات في الأذواق والاتجاه الذي ينبغي أن نحشد فيه طاقاتنا.
والأمر ليس بعيدا عن "اقتصاد المعرفة"، أو "الاقتصاد الجديد" الذي يتجاوز "كحالة متداخلة ومركبة" الاقتصاد الكلاسيكي بآلاته الثقيلة وخطوط انتاجه النمطية، فيما يتفاعل العقل الانساني مع العقل الالكتروني في بنى شبكية قوامها الابداع الذي يستلزم دوما حرية التفكير.
ومنطقة مثل قناة السويس بمعطياتها وتطوراتها وطابعها المنفتح على العالم تشكل موئلا طبيعيا لتكوين كوادر تعمل في الصناعات الابداعية وتمتلك مهارات جديدة ومرتبطة بإقتصاد العولمة الجديد وبصورة تتوافق مع ما نحتاجه في مصر من "تفكير جديد وخيال جديد"، فيما لم تعد الطرق التقليدية في التفكير والتعبير والسلوك صالحة لهذا العصر الجديد.
ولئن كانت منظمة اليونسكو المعنية عالميا بالثقافة قد اختارت أن تعرف الثقافة بأنها جماع السمات المادية والفكرية والاجتماعية وتشمل الفنون والآداب وطرق الحياة، معتبرة أنها وسيلة الانسان للتعبير عن نفسه والتعرف على ذاته، فإن هذا التعريف يوميء لأهمية الثقافة ضمن أي مشروع للتقدم بقدر ما يشير لمعنى الإنتاج الثقافي، وقد يحفز بلدا كمصر على تبني دعم الصناعات الثقافية الإبداعية.
ونحن بحاجة في هذا السياق لـ "نموذج طلعت حرب" الحاضر في الذاكرة الثقافية والوطنية المصرية بمشاريع مثل استديو مصر السينمائي ودعمه للمسرح، وهي مشاريع خدمت الثقافة دون أن تغفل عن عامل الربح المادي.
إن المشهد يؤشر بوضوح إلى إمكانية أن يتحول قطاع الصناعات الثقافية الإبداعية المصرية إلى مصدر هام للدخل القومي بقدر ما يشكل إضافة نوعية للرسالة الحضارية لمصر الخالدة.. مصر الملهمة التي تهوى صنع الأمجاد وإبداع العجائب والأشعار والجمال.