مع الاحتفال بالذكرى العطرة لمولد الحبيب المصطفى تتوالى الطروحات والتأملات والنظرات الثقافية في الحدث الجليل والذكرى المباركة لمولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيما تبقى الثقافة المحمدية "زاد مصر المؤمنة" وهي ثقافة الوسطية الاسلامية بقدر ما تشكل الترياق لعلل التطرف وشرور الارهاب.
ورسالة السماء التي أنزلها الحق في علاه على خاتم الأنبياء هي بوسطيتها حاضرة في الحياة اليومية لملايين وملايين المصريين الذين يحبون نبيهم "الصادق الأمين وأسوتهم الحسنة" ويستدعون مواقفه وأحاديثه في كثير من مواقف حياتهم اليومية.
والثقافة المحمدية مناوئة للوهن والتوهين وتشكل ايضا قوام "الذات المدخرة" التي نستدعيها دوما في اوقات التحديات القاسية والأيام الصعبة والساعات العصيبة وهي ثقافة تفكير لاتكفير بقدر ماتحض على الاجتهاد الانساني واعمار الكون وتحث العقل على اهمية فهم المتغيرات وتغيير الواقع نحو الأفضل وتشجع المبادرة والتجديد دون تفريط في الثوابت.
وفي كلمته باحتفال وزارة الأوقاف بالمولد النبوي الشريف، أعاد الرئيس عبد الفتاح السيسي للأذهان ان الرسول عليه الصلاة والسلام "قاد ثورة هائلة من التحولات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية" وقال ان "طريقا طويلا ينتظرنا اذا ما أردنا احياء حقيقيا لذكرى النبي العظيم من خلال العمل الشاق مع الأمل في غد افضل فضلا عن الصبر على مشقة الطريق مع التطلع الى جزاء الصابرين المجتهدين".
وشدد الرئيس عبد الفتاح السيسي على ان "اول التحديات التي نعاني منها منذ فترة طويلة هو انفصال خطابنا الديني عن جوهر الاسلام ذاته وعن احتياجات عصرنا الحالي" فيما اكد تقديره الكبير للدور الذي يقوم به الأزهر الشريف كقلعة مستنيرة تسهم في احياء صحيح الدين لاسيما في ضوء سعي البعض لترويع الناس وهدم الدولة من اجل افكار هدامة.
واذا كانت اشكاليات مواجهة الفكر المتطرف والمجافي للوسطية الاسلامية كما تجلت في رسالة الحبيب المصطفى للعالمين ليست وليدة اليوم فلعلنا بحاجة لقراءة جديدة في تراث مضيء لأعلام الدعاة وكوكبة من علماء الأزهر الشريف وفي طليعتهم الامام الدكتور عبد الحليم محمود والشيخ محمد متولي الشعراوي والإمام جاد الحق علي جاد الحق والدكتور احمد حسن الباقوري.
واذ يطالب الكثير من المثقفين المصريين "بتحديث الخطاب الديني واعلاء قيم التنوير والاجتهاد الحر" متفقين على اننا بحاجة الى "ثورة فكرية لمواجهة الارهاب الذي يبدأ بدوره من الأفكار"، فان جمهرة المثقفين يدركون ايضا ان الأزهر الشريف بمقدوره القيام بتلك المهمة اتساقا مع دوره العظيم كمنارة ايمانية لها مكانة سامية في قلوب المصريين وعلى مستوى العالم الاسلامي ككل.
وقد يقع جانب كبير من تلك المهمة على عاتق التلفزيون الوطني باعادة بث هذا التراث العزيز على الشاشة التي يتابعها ملايين المشاهدين وهم في سوادهم الأعظم يتشوقون لأحاديث وشروح تلك الكوكبة المضيئة من العلماء والمفكرين والآباء الثقافيين ورموز الوسطية من دعاة استوعبوا رسالة خاتم الأنبياء والرحمة المهداة لكل البشر.
ومن هنا ينبغي على التلفزيون بحكم تمتعه بقاعدة كبيرة وعريضة من المتلقين الامساك بزمام المبادرة بين وسائل الاعلام المختلفة واعداد باقة من البرامج التي تحقق الاستفادة المثلى من تراث تركه لنا علماء ودعاة كبار كان بمقدورهم التعامل مع اعقد القضايا الفكرية والانتصار لصحيح الاسلام وجوهر رسالة الحبيب المصطفى.
ومشروع كهذا هو في الواقع مشروع اعلامي-ثقافي يخدم القاعدة العريضة من الجماهير في مصر والعالم العربي بقدر ما يكشف شطط وانحراف جماعات التطرف وتنظيمات الارهاب التي تتخفى وراء شعارات دينية فيما تروع الأمة بممارساتها الباغية وتخدم اعداءها واجندات قوى الشر الرامية لمزيد من تمزيق العالم العربي والاسلامي.
والأمر في مرحلة حافلة بالتحديات الجسام لا يمكن ان ينحصر في قنوات ووسائط متخصصة في بث مواد التراث وانما يتوجب اتساع نطاقه ليشمل القنوات العامة للوصول لأكبر عدد ممكن من المتلقين وهم في الواقع ينتظرون مثل تلك البرامج ويتفاعلون معها بايجابية مثلما كان الحال في البرامج التي يظهر فيها امام الدعاة الراحل فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي بقدرة فذة على التواصل فيما يتحدث للجماهير بلغة ومفردات تجمع ما بين عبقرية اللغة وفتوحات الالهام والحب المخلص للرسالة المحمدية الخالدة.
وفي الذكرى العطرة لمولد الرسول الكريم، قال مفتي الديار المصرية الدكتور شوقي علام:"ما أحوجنا في هذه الآونة الحرجة من ان نقتدي ونتأسى به صلى الله عليه وسلم في أخلاقه العظيمة وسنته السنية وسيرته الشريفة من خلال الالتزام بتعاليم هذا الدين القويم قولا وفعلا وسلوكا".
والمعجزة الحاضرة ابدا للحبيب المصطفى هي معجزة ثقافية بامتياز كما تتجلى في القرآن الكريم وهو "الكتاب" الذي انزل من لدن الحق في عليائه على الرسول الكريم ويبدأ بكلمة "اقرأ" فيما كان تمام المعجزة وكمالها ان يكون النبي أميا لدحض اي تخرصات حتى يوم الدين.
فكفانا شرفا ان يكون الكتاب الذي انزل على نبينا هو من قال فيه رب العزة:"أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ".
وكفى مصر مجدا أن يذكرها القرآن الكريم في عدة مواضع وان يكرمها الحبيب المصطفى بقوله لأصحابه الكرام:"ستفتحون مصر ان شاء الله فأحسنوا الى اهلها واستوصوا بقبطها خيرا فان لهم ذمة ورحما وصهرا" وهو القائل وما أروع قوله:"اذا فتح الله عليكم مصر من بعدي فاتخذوا منها جندا كثيفا فهم خير اجناد الأرض وهم في رباط الى يوم القيامة".
واذ حذرنا الحبيب المصطفى من يوم يوشك ان تداعى فيه الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها فانه ترك لنا ثقافة محمدية مضادة للوهن واهدار الامكانية بقدر ماتشكل هذه الثقافة جوهر القوة الشاملة وامكانية متجددة لبناء افضل منظومة ثقافية للقيم والأخلاق.
كانت الثقافة المحمدية الصافية النقية والحاضرة في نفوس رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه هي القادرة على الحاق الهزيمة بقوتين عظميين قامتا على ظلم وعدوان واستعباد للبشر فكان انتصارها في لحظة تاريخية وضيئة مضيئة انعتاقا للانسانية كلها وحرية لكل البشر واعلاء لكرامة الانسان.
ولئن كانت طغمة من اعداء رسالة الرحمة المهداه لكل البشر وجدوا في حفنة من المتاجرين بالشعارات الدينية واصحاب الأطماع السلطوية ممن يتخفون وراء الأقنعة المتأسلمة خير حليف في تقسيم الأوطان وهدم الدول العربية والاسلامية فان التمسك بالاسلام المحمدي والعروة الوثقى لسيدنا رسول الله لابد وان يجهض مخططات الشر ويهزم من يسعون لذبح المسلمين وتقسيم اوطانهم.
وكيف للذبح وقطع الرؤوس والأعناق ان يكون غاية مسلم ورسالة حبيبنا ونبينا ورسولنا وتاج رؤوسنا هي رسالة الرحمة للوجود كله بكل موجوداته وتجلياته وكائناته ؟!.
وهكذا حق لمثقف مصري مثل الشاعر والكاتب الكبير فاروق جويدة ان يتحدث عن ظاهرة غريبة ومريبة مثل ما يسمى "بتنظيم داعش" وان يقول:"ولم يكن غريبا ان تستدعي داعش كل التاريخ الدموي في الذاكرة العربية والاسلامية ابتداء بتاريخ الخوارج" فيما رأى ان هناك ترتيبات تجرى في الخفاء منذ سنوات لاشعال الفتن.
وثمة طروحات لمثقفين مصريين توضح ان الحرب على الارهاب تثير الكثير من القضايا الفكرية والثقافية والحضارية التي تتجاوز جوانبها الأمنية فيما تدرج تلك القضايا تدرج اجمالا تحت عنوان"التنوير والنهضة".
والثقافة المحمدية هي ثقافة العمل والاتقان وسيدنا رسول الله هو القائل:" ان قامت الساعة وبيد احدكم فسيلة فان استطاع ان لايقوم حتى يغرسها فليغرسها" ومن ثم فنحن بحاجة حقا لأن نتأسى بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في المثابرة والاجتهاد واتقان العمل على اكمل وجه معيدا للأذهان المقولة الشريفة:"ان الله يحب اذا عمل احدكم عملا ان يتقنه".
وفي هذه الذكرى العطرة لسيد الخلق الذي دعا لمكارم الأخلاق فاننا بحاجة ايضا الى "ثورة ضمير وثورة اخلاق" والعمل باتقان وصدق كما ان هناك حاجة ماسة لقراءة متعمقة في الثقافة المحمدية حيال قضايا مثل العدالة والنزاهة وطهارة اليد وتأمل معنى ومغزى مواقف اشرف الخلق المسجلة في سيرته العطرة.
وفي قضية مثل العدالة الاجتماعية التي ناضل من اجلها الصحابي الجليل ابو ذر الغفاري كان لنبوءة سيد الخلق اجمعين ان تتحقق عندما قال:"ياأبا ذر: انت رجل صالح وسيصيبك بلاء بعدي" فقال ابو ذر متسائلا:"في الله؟" ليقول النبي:"في الله" ويرد ابو ذر رد من تشرف بصحبة نبي العدالة والرحمة والاسلام ويقول:"مرحبا بأمر الله".
فأبو ذر الغفاري كتلميذ نجيب في المدرسة المحمدية ادرك ان الاسلام قام على اساسين متينين هما التوحيد والعدل وان الرسول الكريم سار بين الناس سيرة قوامها العدل فيما تروي كتب السيرة والسنن انه صلوات الله عليه وسلامه في مرضه الذي فارق به الحياة الدنيا لينتقل الى رحاب ربه سأل عن شييء من المال كان قد بقى عنده من مال المسلمين فأخرجه الى الناس ولم يبق منه شيئا وتوفي "وهو لايملك صفراء ولابيضاء".
وكما تتفق كتابان لمثقفين مصريين فان "مولد الرسول صلى الله عليه وسلم في عام الفيل الذي شهد اندحار قوى الشر ممثلة في ابرهة وجيشه لم يكن مصادفة وانما بشارة من المولى جلت قدرته بعهد جديد للانسانية كعهد تتحرر فيه من ظلمات الباطل وتثور على الوان الظلم لتحقق العدالة وتتبع قائد اتى برسالة ربانية فيها خلاص البشرية وصلاحها".
ولم يكن من الغريب ان تكون الثقافة المحمدية برؤاها الثرية وابعادها المتراكبة نبع الهام لكثير من المبدعين والمفكرين في العالم ومن بينهم في مصر امير الشعراء احمد شوقي صاحب قصيدة "ولد الهدى فالكائنات ضياء" ناهيك عن المفكر العملاق عباس محمود العقاد وعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين فضلا عن آباء ثقافيين مثل الدكتور محمد حسين هيكل وعبد الحميد جودة السحار.
ومن نافلة القول ان الثقافة المحمدية تشكل اغنى مصادر الابداعات في عالم المتصوفة وفيما اعتادت مشيخة الطرق الصوفية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في محيط مسجد الحسين وهي منطقة شكلت زادا ثقافيا ابداعيا للأديب النوبلي المصري الراحل نجيب محفوظ.
انها منطقة تعبر في الجوهر عن مصر المحبة لمحمد الرحمة المهداه وآل البيت الأطهار..مصر الوفية لاسلامها الحق والتي لاتقبل ان يقوم اي طرف او فصيل "بتأميم الدين لصالحه وتأويله لمصالحه الخاصة على حساب اغلبية الشعب"..مصر التي لن تنحني الا لخالق الكون الذي وهبها رسالة حضارة كونية..مصر التي لن تترجل عن تعاليم خاتم الأنبياء وحبيب خالق الأرض والسماء..نعم هذا يوم نستعيد فيه سنا النور ونتابع الخطى نحو نبع لاينضب..نبع الثقافة المحمدية وفيض النور للرحمة المهداة سيدنا رسول الله.
تمر الأزمنة وتبقى الثقافة المحمدية زادنا وقوام مصر المؤمنة..ايها السيد الحبيب:"قلوبنا تهوى اليك وارواحنا تستأنس بالذكرى العطرة لمولدك الشريف..حبنا لك لاتتسع له الكلمات".