عباس حلمى الثانى سابع حكام مصر من أسرة محمد على الذى تولى منصب الخديوية عقب وفاة والده توفيق وهو فى الأربعين من عمره ولم يكن عباس حلمى قد أكمل عامه الثامن عشر بالتقويم الميلادى فتم تنصيبه وفقا للتقويم الهجرى وكان الخديو الشاب يدرس فى فيينا فقطع دراسته وعاد للبلاد ليتولى مهام منصبه وقد اعتبرت الصحف البريطانية فى ذلك الوقت أن الاحتلال البريطانى لمصر أصبح أكثر ضرورة بوفاة توفيق فالخديو الجديد شاب صغير عديم الخبرة وإنه لا يجوز منذ الآن الحديث عن الجلاء.
إلا أن الخديوي الشاب فاجأ الجميع، واتخذ من سياسة الإصلاح ومقاومة الاحتلال الإنجليزي منهجًا تقرب به إلي قلوب المصريين مما زاد من شعبيته بين أبناء وطنه، حتي اعتقدوا أنه الخلاص من الإنجليز لذلك هتفوا له بهتاف "الله حي عباس جاي"، استغل الإنجليز خروجه من مصر وخلعوه من العرش ونصبوا عمه السلطان حسين كامل بدلا منه سلطانا على البلاد.
ولد الخديو عباس حلمي الثاني في الإسكندرية في 14 يوليو 1874 وهو أكبر أولاد الخديو توفيق، وكان بعد وفاة أبيه قد استدعي من الخارج ليعتلي الأريكة الخديوية في 8 يناير 1892 حتى تم خلعه في 19 سبتمبر 1914 وتم تنصيب عمه السلطان حسين كامل بدلا منه وظل منذ خلعه منفيًا في سويسرا حتى وفاته في 19 ديسمبر 1944 عن 70 عامًا في جنيف بسويسرا.
حاول «حلمي» أثناء فترة حكمه أن ينتهج سياسة إصلاحية ويتقرب إلى المصريين ويقاوم الاحتلال البريطاني، فانتهز الإنجليز فرصة بوادر نشوب الحرب العالمية الأولى وكان وقتها خارج مصر، فخلعوه من الحكم وطلبوا منه عدم العودة ونصبوا عمه حسين كامل سلطانًا على مصر بدلًا من أن يكون خديو وفرضوا على مصر الحماية رسميًا، ويوجد في القاهرة كوبري باسمه وهو كوبري عباس الذي يربط بين جزيرة منيل الروضة والجيزة.
التزم "حلمي" نهجًا وطنيًا وناهض الاحتلال وبعد عام من توليه الحكم أقال وزارة مصطفى فهمي باشا، الذي كان مواليًا للإنجليز ووقعت أزمة مع إنجلترا وتحدى المندوب السامي البريطاني، لورد كرومر، فأدى ذلك إلى زيادة شعبيته، فعندما ذهب لصلاة الجمعة في مسجد الحسين في 11 يناير 1893 دوت الهتافات بحياته وارتفع صوت الدعاء له وعبر الجميع عن حبهم له.
وذكر "عباس"، في مذكراته أن السلطان عبدالحميد الثاني شجعه على معارضة إنجلترا، وواصل سياسة التحدي للاحتلال، وبإيعاز منه قررت لجنة مجلس شورى القوانين رفض زيادة الاعتماد المخصص للجيش البريطاني وتخفيض ضرائب الأطيان وتعميم التعليم وفي عهده وقعت حادثة دنشواي في 1906، وعقدت محاكمة للأهالي وصدر ضدهم أحكام قاسية، وسافر مصطفى كامل لإنجلترا وشرح المأساة حتى نجح في خلق رأى عام ضد سياسة لورد كرومر في مصر.
استجابت الحكومة البريطانية ومجلس النواب، وهاجم الأديب أيرلندي جورج برنارد شو الاحتلال، فأعفي لورد كرومر من منصبة في 12 أبريل 1907 وفي 27 سبتمبر 1911 وصل المندوب السامي الجديد هربرت كتشنرو حاول إجراء إصلاح محدود، فضم مجلس الشورى مع الجمعية العمومية في هيئة واحدة تسمى الجمعية التشريعية وفي 22 يناير 1914 أصدر قرارًا بإنشاء الجمعية الجديدة وعين سعد زغلول رئيسًا لها.
حروب سياسيةحياة عباس لم تكن هادئة وعلاقته بالإنجليز لم تكن صافية.. فقد خاض عدة حروب سياسية معهم لكنه خسرها جميعا ولم يجد المناص من قبول أوامر المندوب السامي فى كل مرة.. أولى هذه الحروب كانت عندما سافر للأستانة ليشكر السلطان عبد الحميد على الثقة التى أولاها له ولينال تأييده على خطوات عودة مصر لحضن الخلافة، وقد ذكر الخديو فى مذكراته أن السلطان عبد الحميد الثانى شجعه على معارضة إنجلترا.. فعندما عاد عباس واصل سياسة التحدى للاحتلال، وبإيعاز منه قررت لجنة مجلس شورى القوانين رفض زيادة الاعتماد المخصص للجيش البريطانى وتخفيض ضرائب الأطيان وتعميم التعليم.. فاتهمه الإنجليز بأنه وراء هذا.. وبعد شد وجذب اضطرت نظارة مصطفى رياض باشا للرضوخ لرغبة الإنجليز وقامت بزيادة الاعتمادات.
وعلى الرغم من الهزيمة السياسية له فى هذه المعركة فإنه سرعان ما قرر خوض معركة جديدة.. وفى 15 يناير 1894 زار أسوان ودعا 33 ضابطا لتناول الطعام معه، ثم أبدى للقائد العسكرى الإنجليزى هربرت كتشنر بعض الملاحظات حول عدم كفاءة الجيش البريطاني، ولكن كتشنر لم يقبل هذه الملاحظات واعتبرها إهانة وأبلغ المندوب السامى اللورد كرومر الذى بدوره أبلغ إنجلترا فثارت ضجة هناك وقالت الصحف إن الخديو يعاملنا معاملة الأعداء وهددت بخلعه.. وطلب اللورد كرومر منه أن يصدر أمرًا عسكريًا يثنى فيه على الجيش، فاضطر للإذعان فى 21 يناير 1894ونفذ ما طلب منه.. وإمعانا فى إذلاله طلبوا منه تغيير النظارة الحالية بأخرى بزعامة نوبار باشا.
وكنتيجة للشعور الوطنى لدى الشعب اشتبك الأهالى مع بعض البحارة الإنجليز فطلب اللورد كرومر من عباس الثانى تشكيل محكمة خاصة.. وبالفعل رضخ الخديو لأوامر كرومر وأنشئت المحكمة وأصدرت أحكاما عليهم تتراوح بين الحبس من 3 إلى 8 شهور.. ومع توالى الهزائم السياسية اضطر عباس لعمل هدنة توقف الصدام مع الإنجليز مؤقتًا والتحول لميدان آخر وهو إصلاح الأزهر وتنصيب شيخ جديد وإرسال كسوة الكعبة.. إلا أن الصدام عاد مرة أخرى فى 19 سبتمبر 1897 حيث اشتبك الأهالى فى قليوب مع فصيلة إنجليزية فحاصر الإنجليز البلدة.
ولقد حاول الإنجليز دق إسفين بين مصر والدولة العثمانية.. ففكروا فى إقالة قاضى القضاة العثمانى وتعيين قاض مصرى ولكن عباس حلمى الثانى رفض وقال إن تعيين قاض شرعى فى مصر ليس من سلطته ولكن من سلطة الخليفة الأعظم.. وفى لقائه مع اللورد كرومر استطاع الخديو عباس فرض وجهة نظره ليحقق ولأول مرة انتصارا سياسيا بعد عدة هزائم.
وفى 1904 وقع اتفاق ودى بين إنجلترا وفرنسا بمقتضاه تطلق إنجلترا يد فرنسا فى مراكش وتطلق فرنسا يد إنجلترا فى مصر، وبهذا خسرت مصر النقد اللاذع من الفرنسيين للإنجليز، فاضطر الخديو لمهادنتهم.. حتى وقعت حادثة دنشواى فى 1906 وتمت محاكمة الأهالى وصدرت ضدهم أحكام بالإعدام والأشغال الشاقة.. فسافر مصطفى كامل لإنجلترا وشرح المأساة فنجح فى خلق رأى عام ضد سياسة اللورد كرومر فى مصر.. وبالفعل استجابت الحكومة البريطانية ومجلس النواب وتم إعفاء كرومر من منصبه فى 12 أبريل 1907.
خرج ولم يعدمرت السنوات وعام وراء الآخر يقترب الخديو من مشهد النهاية الذى وضعته وخططت له الدول الكبرى.. فالعلاقة بينه وبين الإنجليز غير مستقرة فالخديو كان دائم البحث عما يقلق راحة المحتلين مثلما حدث فى 1908 عندما أرسل عباس وفدا يطلب من وزارة الخارجية البريطانية منح مصر الحق فى حكومة نيابية ذات سلطات معينة.. ومحاولته إعادة سياسة الصدام عندما أوعز إلى البرلمان والحكومة برفض مد امتياز قناة السويس على أساس أن هناك ظلمًا وقع على مصر مقداره 130 مليون جنيه.. ظل هذا هو الحال إلى أن جاء المندوب السامى الجديد هربرت كتشنر فى 27 سبتمبر 1911 وحاول إجراء إصلاح محدود، فضم مجلس الشورى مع الجمعية العمومية فى هيئة واحدة تسمى الجمعية التشريعية، وفى 22 يناير 1914 قام الخديو بتنفيذ تعديلات كتشنر وأصدر قرارا بإنشاء الجمعية الجديدة وتعيين سعد زغلول رئيسًا لها.
وفى 21 مايو 1914 استقل عباس يخت المحروسة فى رحلة للخارج.. وقبل سفره قام بإجراء تنقلات وترقيات لرجال القضاء الأهلى ووضع سلطاته لرئيس الوزراء.. سافر الخديو دون أن يعلم أنه لن يعود مرة أخرى إلى أرض المحروسة وأن لعبة الأمم الكبرى قد نجحت فى خطتها.
فقد زار عباس بعد مغادرته مصر فرنسا ثم غادرها لتركيا.. حيث تعرض لحادث كاد أن يودى بحياته.. فبينما كان خارجًا من الباب العالى قام شاب مصرى يدعى «محمود مظهر» بإطلاق الرصاص عليه.. وقد قال عباس عن الحادثة: شعرت بانقباض صدرى قبلها، وعندما رأيت الشاب يصوب المسدس نحوى تمكنت من الإمساك بيده الممسكة بالمسدس ودفعه بعيدًا فى الوقت الذى لم يتحرك فيه الحرس إلا متأخرا وأصابنى بعض الرصاص ولكن فى مناطق غير مميتة وتناثرت الدماء على ملابسى وكيس نقودى ولكنها لم تصل إلى المصحف الذى كنت أحمله وهذا من لطف الله وحتى لو وصلت إليه لما مس هذا من قداسته.
تسبب هذا الحادث فى تأخير عودة الخديو لمصر فى الوقت الذى نشبت فيه الحرب العالمية الأولى ولم يعد السفر عبر البحار مأمونًا، وطلب السفير الإنجليزى فى تركيا من الخديو العودة إلى مصر.. إلا أنه تردد فطلب منه أن يرحل إلى إيطاليا حتى تسمح الظروف بالعودة إلى مصر إلا أنه رفض.. وكانت الحرب حتى ذلك الوقت بين إنجلترا وألمانيا، إلا أن إنجلترا تعرف أنه كان هناك عداء تركى للإنجليز جعلهم يتشككون فى نوايا عباس.
خلع عباسفى ذلك الوقت كانت كل الجهات فى إنجلترا عدا الخارجية تطالب بخلع عباس الثاني.. وقد وجدوها فرصة سانحة لتحقيق ما يريدون.. وفى 10 ديسمبر 1914 صدر القرار بعزله وجاء فيه: «يعلن وزير الخارجية لدى جلالة ملك بريطانيا العظمى أنه بالنظر لإقدام سمو عباس حلمى باشا خديو مصر السابق على الانضمام لأعداء جلالة الملك رأت حكومة جلالته خلعه من منصب الخديو».
هكذا انتهت حياة الخديو عباس حلمى الثانى كملك جلس على عرش مصر.. عباس الذى لم يتخيل أن يصبح بين عشية وضحاها بلا سلطان ولا جاه.. ولكن إرادة الله ولعنة العرش أبتا أن تتركاه حتى سحبت منه كل شيء خاصة بعد تنازله عن كافة حقوقه فى عرش مصر بعد مفاوضات أجراها معه إسماعيل صدقى باشا مقابل 30 ألف جنيه دفعتها له حكومة مصر.. ونصبوا عمه حسين كامل سلطانًا على مصر بدلًا من أن يمارس حقوقه كخديوي.