مصر الخالدة تحتفل بـ «ميلاد المسيح» وتنشد «ثقافة المحبة»

صورة تعبيرية
كتب : وكالات

ها هي مصر الخالدة تحتفل بعيد ميلاد السيد المسيح في يوم كطعم الماء عذبا.. يوم يحمل تجليات ثقافة المحبة وهو يوم لكل المصريين مسيحيين كانوا أو مسلمين فكلهم من أبناء وطن باركه المسيح ابن مريم الذي يوقره الوجدان المسلم.

وكان الرئيس عبد الفتاح السيسي قد وجه التهنئة للمصريين بحلول عيد الميلاد المجيد فيما أعلن في كلمة بالكاتدرائية المرقسية مساء أمس "الجمعة" عن قرار بإنشاء مسجد وكنيسة بالعاصمة الإدارية الجديدة على أن يتم افتتاح الكنيسة والمسجد الكبيرين في بداية العام المقبل.

ورأى قداسة البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية في مقابلة صحفية مع جريدة الأهرام أن هناك من يسعى "لعرقلة صحوة المارد المصري"، منوها بأن "مصر ذات التاريخ والحضارة وصاحبة اول حكومة مركزية تجمع كل المصريين" وشدد على اطمئنانه إلى مستقبل مصر.

وقال البابا تواضروس الثاني إن السياسات الغربية اضرت بمسيحيي الشرق الأوسط وهي منطقة تعد مهد الأديان، مشيرا إلى الأخطاء التي ارتكبت في العراق وسوريا، فيما أكد على أن القضية الفلسطينية هي قضية العرب الأولى، وحل هذه المشكلة سيسهم إلى حد كبير في استقرار الأوضاع بالمنطقة.

ويأتي الاحتفال بعيد الميلاد المجيد هذا العام بعد نحو أسبوع واحد من رحيل أحد رموز المسيحية العربية والمقاومة الفلسطينية" وهو المطران هيلاريون كابوتشي السوري الأصل فيما كان مطران القدس الراحل قد قضى أربع سنوات رهن المعتقلات الإسرائيلية بعد اتهامه بتهريب أسلحة لرجال المقاومة الفلسطينية.

والمطران كابوتشي الذي قضى عن عمر يناهز الـ 94 عاما كان مطران الروم الكاثوليك بالقدس واعتقلته سلطات الاحتلال الإسرائيلي يوم الثامن من أغسطس عام 1974 وتعرض للنفي من القدس بعد سنوات السجن فيما حاول العودة لفلسطين عام 2009 غير أن سلطات الاحتلال الإسرائيلية حالت دون عودته.

ولعل قصة المطران المقاوم هيلاريون كابوتشي الذي وري رفاته الثرى في بيروت توميء بوضوح إلى معنى القضية الفلسطينية لدى كل العرب مسلمين ومسيحيين وقد تعيد للأذهان قصة طبيب مصري مسيحي الديانة هو الدكتور رؤوف نظمي ميخائيل الذي عرف في صفوف المقاومة الفلسطينية بالاسم الحركي "محجوب عمر".

وكان الدكتور رؤوف نظمي ميخائيل أو "محجوب عمر" قد انضم للمقاومة الفلسطينية بعد حرب الخامس من يونيو 1967 وعرف بعلاقته الوثيقة بالزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات فيما بلور في كتابه " حوار في ظل البنادق" صيغة ابداعية لدولة فلسطينية ديمقراطية تضم المسلمين والمسيحيين واليهود.

ولئن كان المثقف المصري الدكتور رؤوف نظمي ميخائيل صاحب مقولة " ان للآلام جمالها " والذي ذاع صيته باسم "محجوب عمر" بين مقاتلي حركة فتح والمقاومة الفلسطينية كمبدع وصاحب رؤية وصدرت له ابداعات في القصة والشعر والمسرح قد اسلم الروح في الثاني عشر من ابريل عام 2012 ليشكل صفحة مضيئة في التاريخ الثقافي للمقاومة الفلسطينية فان العصر القبطي يشكل جزءا عزيزا من التاريخ الثقافي لمصر الخالدة كما تشكل الكنيسة المصرية قلعة من قلاع الوطنية المصرية.

وبمناسبة الاحتفال بعيد الميلاد قرر المتحف المصري عرض قطع اثرية من العصر القبطي خلال شهر يناير الحالي فيما اوضحت صباح عبد الرازق مدير عام المتحف ان هذه القطع يصل عددها لست قطع اثرية لافتة في تصريحات صحفية الى انه تم اختيار القطع الاثرية بعناية من جانب ادارة المتحف لتعبر عن الفن القبطي الذي يعد جزءا لايتجزأ من الثقافة المصرية.

وغنى عن البيان أن المسلمين يشاركون المسيحيين الحب والتوقير للمسيح وامه العذراء مريم فيما جاء الطفل ابن السيدة العذراء والذى تكلم فى المهد ليدافع عن امه التى لم يمسها بشر بشارة رحمة من السماء للإنسان الذى يكابد العذابات كما يقول الكاتب الأمريكى المسلم هارون موجول وهي مقولة راسخة في الضمير الجمعي لشعب مؤمن كشعب مصر الذي يكاد يجسد ماورد في هذه الدراسة الهامة من تجليات إيمانية نبيلة.

وفيما استعاد هارون موجول فى مجلة "بوستون ريفيو" التى تصدر شهريا أوجه التشابه التى تكاد تصل للتطابق بين الاسلام والمسيحية واليهودية حول قصة بدء الخليقة والحياة الانسانية فانه ينوه بأن كل الأنبياء الذين بعثوا لهداية الانسان كانوا يحملون رسالة واحدة هى التوحيد.

ويقول الكاتب والباحث هارون موجول فى هذه الشهرية الثقافية الأمريكية ان المسلمين خلافا لما يعتقده البعض لايشعرون بالضيق او الامتعاض من "تراث الغرب اليهودى-المسيحى".

وبات هارون موجول من الأسماء البارزة فى الدوائر الأكاديمية الأمريكية المعنية بالثقافة الاسلامية ودراسات الشرق الأوسط وعرف باهتمامه العميق بأفكار الشاعر والفيلسوف الباكستانى محمد اقبال وخاصة مشروعه لاعادة بناء فكر المسلم المعاصر.

ويتأمل هارون موجول فى طرحه بمجلة "بوسطن ريفيو" الدفاع القرآنى عن المسيح والعذراء والحواريين من الفئة المؤمنة فى مواجهة الطغمة الظالمة من الذين رفضوا الايمان برسالة الرحمة والمحبة، مشيرا إلى أن "المسيح حى بالفعل فى وجدان المسلم الحق".

ومع التسليم بوجود اختلافات جوهرية على المستوى العقيدى بين الاسلام والمسيحية كما هو الحال بين كل الأديان كأمر مفروغ منه وطبيعى فان هارون موجول يبدو معنيا بالدرجة الأولى فى هذا الطرح بتصور المسلم للمسيح فيما يتوقف امام بعض القصص فى التراث الشعبى.

ومن هذه القصص فى التراث الشعبى المتداول بين مسلمين قصة تقول إن المسيح سيعود للأرض قادما من السماء على مئذنة بيضاء تكاد تتطابق مع منارة المسجد الأموى فى دمشق المعذبة بالاقتتال في سوريا الحبيبة وهناك سيكون ايضا يوحنا المعمدان وهو احد الذين يوقرهم الضمير المسلم من المنظور القرآنى.

وفيما يلاحظ هارون موجول ان "المنارة البيضاء" للمسجد الأموى تحظى بدلالات خاصة ومميزة فانه يواصل تناوله لهذه القصة التى وردت فى التراث الشعبى الاسلامى لتقول ان المسيح لدى عودته للأرض المعذبة سيقضى على الطغاة اعداء الحق والخير والجمال وسيوحد ابناء "ابو الأنبياء ابراهيم" ويلم شملهم مجددا ويقود الأنسان لعصر ذهبى.

ودافع القرآن عن المسيح والعذراء مريم فيما ينظر العقل المسلم للمسيح باعتباره ايقونة الزهد والنسك والتواضع تماما كما ان امه العذراء هى ايقونة الطهر وهكذا قال الامام ابو حامد الغزالى احد اكبر المفكرين الاسلاميين فى القرن الحادى عشر الميلادى ان المسيح هو امثولة التقوى وايقونة الورع فيما امتد التوقير الاسلامى للمسيح الى اتباعه وخاصة من النساك والرهبان.

ويتجلى ذلك فى التنزيل الحكيم فى آيات مثل :"ليسوا سواء من اهل الكتاب امة قائمة يتلون ايات الله اناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون فى الخيرات واولئك من الصالحين" والآية الكريمة التى جاء فيها:"لتجدن اقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا انا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وانهم لايستكبرون".

هكذا يحق لباحث مثل هارون موجول أن يقول إن حب المسيح فى الواقع يجمع بين المسيحيين والمسلمين وان مايجمعنا هنا اكثر مما يفرقنا فيما يتأمل قبة الصخرة ذلك المصلى الثمانى الأضلاع عند المسجد الأقصى واحد اعرق انجازات العمارة الاسلامية كرمز يجمع بين محمد والمسيح كما يجمع بين الاسلام والقدس الشريف.

فمصلى قبة الصخرة بقدر اقترابه من المسجد الأقصى وحدث الاسراء والمعراج المحمدى الجليل والمهيب وامامة النبى محمد لكل الأنبياء فى الصلاة بقدر مايقترب من كنيسة شهد موقعها لحظات حاسمة فى مسيرة السيد المسيح وتضحياته من اجل الانسان ومقاومة الطغيان كما تحوى رفات شهداء فى تاريخ المسيحية.

وهذا المصلى الواقع على صخرة المعراج امر ببنائه الخليفة الأموى عبد الملك بن مروان خلال الفترة بين عامى 688 و692 وبات رمزا معماريا للقدس.

وعلى جدران مصلى قبة الصخرة ايات من سورة مريم تفيض بها الدموع من العيون الخاشعة والقلوب المحبة وابتهالات ودعوات محبة للمسيح ابن العذراء ترمز للرغبة فى بناء ارضية مشتركة بين ابناء ابراهيم وهى ليست الأولى من نوعها كما يقول هارون موجول.

فهذا الباحث يشير فى سياق طرحه بمجلة بوسطن ريفيو إلى أنه بعد فتح المسلمين لمكة ودخول الكعبة أمر خاتم الأنبياء الرسول محمد اتباعه بتطهيرها من كل الأصنام الا انه نهاهم عن المساس بلوحتين احداهما تصور النبى ابراهيم والأخرى للمسيح وامه مريم العذراء وان كان الرسمان قد اندثرا بمضى الزمن.

كل هذا الحب من محمد للمسيح يستدعى أن يحب كل مسلم اى مسيحى وان يحتفى المسلمون بيوم ميلاد المسيح ورسالته للانسان التى هى فى اصلها النقى رسالة محبة ودعوة رحمة..انها القدرة على رؤية القيمة فى اشياء قد تبدو لاثمن لها فى عصرنا هذا الذي يوصف بعصر "قيم السوق وتسليع الأشياء والحب المفقود"

نعم هذا يوم نستعيد فيه سنا النور..يوم للحب فى زمن السوق المتوحشة وعزلة القلب ودروب المحبة التى غابت او غيبت..نتابع الخطى المثقلة بالألم نحو نبع لاينضب..نبع اسمه الحب!.

هذا يوم لمصر الأقوى من كل ضباب والأكبر من كل غيوم عابرة.. انها مصر وجه القصيدة وبيت القصيد..مصر التي تسمو فوق الأوجاع لتمضي القافلة المباركة في الأرض المباركة وتمضي ارض الكنانة لزمن يتقدم مجدا مجدا.

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً