مع اشتداد الازمة الاقتصادية بدأ كثير من المصريين يقارنونها بالأزمات السابقة التي حدثت خاصة فترة الحرب، بعد نكسة 1967، باعتبار أنه حتى في هذا الوقت كانت السلع الأساسية تتوافر، أما حاليا فبدأت بعض السلع في الاختفاء لفترات مثل السكر، لتعود بعدها بأكثر من ضعف ثمنها وكذلك تضاعفت أسعار بعض السلع، وحذّر كثيرون من ثورة جياع إذا ما زادت الأزمات وتصاعدت.
ولكن التاريخ المصري، يشير إلى أن المصريين لا يثورون بسبب الجوع أو الفقر، فقبل ألف عام حدثت أكبر مجاعة في تاريخ مصر، مات فيها ثلث عدد السكان، في عهد الخليفة المستنصر بالله، آخر خلفاء الدولة الفاطمية.
وأُصيبت البلاد بكارثة كبرى ومجاعة داهية امتدت لسبع سنوات متصلة (1065م - 1071م)، فزاد الغلاء وأعقبه الوباء، حتى تعطلت الأرض عن الزراعة، واشتدت تلك المجاعة حتى لم يجد فيها الناس شيئا يأكلوه فأكلوا الميتة والبغال والحمير، وبيع رغيف الخبز الواحد بخمسين دينارًا.
وذكر ابن إياس من العجائب التي لا يصدقها عقل زمن تلك المجاعة، ومنها: أن الناس أكلوا الكلاب والقطط، وكان ثمن الكلب الواحد خمسة دنانير والقط ثلاثة، وقيل كان الكلب يدخل البيت فيأكل الطفل الصغير وأبواه ينظران إليه فلا يستطيعان النهوض لدفعه عن ولدهما من شدة الجوع والضعف، ثم اشتد الأمر حتى صار الرجل يأخذ ابن جاره ويذبحه ويأكله ولا ينكر ذلك عليه أحد من الناس، وصار الناس في الطرقات إذا قوى القوى على الضعيف يذبحه ويأكله.
وذكر كذلك أن طائفة من الناس جلسوا فوق أسقف البيوت وصنعوا الخطاطيف والكلاليب لاصطياد المارة بالشوارع من فوق الأسطح، فإذا صار عندهم ذبحوه في الحال وأكلوه بعظامه.
ويروي إياس أن وزير البلاد لم يكن يمتلك سوى بغل واحد يركبه، فعهد بالبغل إلى غلام ليحرسه، إلا أن الغلام من شدة جوعه كان ضعيفًا فلم يستطع أن يواجه اللصوص الذين سرقوا البغل، وعندما علم الوزير بسرقة بغله غضب غضبا شديدا، وتمكن من القبض على اللصوص، وقام بشنقهم على شجرة، وعندما استيقظ الصباح وجد عظام اللصوص فقط؛ لأن الناس من شدة جوعهم أكلوا لحومهم.
وقيل: إنه كان بمصر حارة تعرف بحارة الطبق، وهي معروفة بمدينة الفسطاط، كان فيها عشرون دارا، كل دار تساوي ألف دينار، فبيعت كلها بطبق خبز، كل دار برغيف، فسميت من يومئذ بحارة الطبق.
وذكر سبط ابن الجوزي في "مرآة الزمان" أن امرأة خرجت ومعها قدر ربع جوهر من اللؤلؤ، فقالت من يأخذ مني هذا الجوهر ويعطيني عوضه قمحًا؟ فلم تجد من يأخذه منها، فقالت: إذا لم تنفعني وقت الضائقة فلا حاجة لي بك، وألقته على الأرض وانصرفت، فالعجب أن ظل اللؤلؤ مرميًا على الأرض ثلاثة أيام ولم يوجد من يلتقطه.
ويروي المقريزي أن سيدة غنية من نساء القاهرة ألمها صياح أطفالها الصغار وهم يبكون من الجوع فلجأت إلى شكمجية حليها وأخذت تقلب ما فيها من مجوهرات ومصوغات ثم تتحسر لأنها تمتلك ثروة طائلة ولا تستطيع شراء رغيف واحد، فاختارت عقداً ثميناً من اللؤلؤ تزيد قيمته على ألف دينار، وخرجت تطوف أسواق القاهرة والفسطاط فلا تجد من يشتريه، وأخيرًا استطاعت أن تقنع أحد التجار بشرائه مقابل كيس من الدقيق، واستأجرت بعض الحمالين لنقل الكيس إلى بيتها، ولكن لم تكد تخطو بضع خطوات حتى هاجمته جحافل الجياع، فاغتصبوا الدقيق، وعندئذ لم تجد مفرًا من أن تزاحمهم حتى اختطفت لنفسها حفنة من الدقيق وحزنت لما حدث من الجماهير الجائعة، فعكفت على عجن حفنة الدقيق وصنعت منها أقراصاً صغيرة وخبزتها ثم أخفتها فى طيات ثوبها، وانطلقت إلى الشارع صائحة: الجوع الجوع.. الخبز الخبز.
والتف حولها الرجال والنساء والأطفال وسارت معهم إلى قصر الخليفة المستنصر، ووقفت على مصطبة ثم أخرجت قرصاً من طيات ثوبها ولوحت به وهي تصيح: "أيها الناس، فلتعلموا أن هذه القرصة كلفتني ألف دينار، فادعوا معي لمولاي المستنصر الذي أسعد الله الناس بأيامه، وأعاد عليهم بركات حسن نظره، حتى تقومت عليَّ هذه القرصة بألف دينار.
وقُبض على رجل كان يقتل النساء والصبيان ويبيع لحومهم ويدفن رءوسهم وأطرافهم، واشتد الغلاء والوباء حتى أن أهل البيت كانوا يموتون في ليلة واحدة، وكان يموت كل يوم على الأقل ألف نفس، ثم ارتفع العدد إلى عشرة آلاف وفي يوم مات ثماني عشرة ألفًا.
وحُكى أن المستنصر أخرج جميع ما في الذخائر فباعها، ويقال إنه باع في هذا الغلاء ثمانين ألف قطعة من أنواع الجوهر المثمنة وخمسة وسبعين ألف قطعة من أنواع الديباج المذهب وعشرين ألف سيف وأحد عشر ألف دار، وافتقر الخليفة المستنصر حتى لم يبق له إلا سجادة تحته وقبقاب في رجله.
وكان المستنصر في هذه الشدة يركب وحده، وكل من معه من الخواص مترجلون ليس لهم دواب يركبونها، وكانوا إذا مشوا تساقطوا في الطرقات من الجوع، وكان المستنصر يستعير من ابن هبة صاحب ديوان الإنشاء بغلته ليركبها صاحب مظلته، وآخر الأمر توجهت أم المستنصر وبناته إلى بغداد من فرط الجوع، وذلك في سنة 462هـ، وتفرق أهل مصر في البلاد وتشتتوا.
وكان المستنصر يتحمل نفقات تكفين عشرين ألفًا على حسابه، حتى فنى ثلث أهل مصر، وقيل إنه مات مليون وستمائة ألف نفس، ونزل الجند لزراعة الأرض بعد أن هلك الفلاحون، وقال ابن دحية في كتاب النبراس: "وخرّبت القطائع التى لأحمد بن طولون في الشدة العظمى زمن الخليفة المستنصر العبيدى أيام القحط والغلاء المفرط الذي كان بالديار المصرية، وهلك من كان فيها من السكان، وكانت نيفا على مائة ألف دار"، وخربت كذلك مدينة الفسطاط حتى كانت خرابًا، وكان من نتيجة هذه الأزمة العاتية أن أخذت دولة المستنصر بالله في التداعي والسقوط، وخرجت كثير من البلاد عن سلطانه.
وكان من أسباب الأزمة، تحكم أم الخليفة في أمور البلاد فكانت تعين الوزراء والمسئولين الفاسدين وتعزل الأكفاء المصلحين وتأمر بقتل من لايروق لها، والتخبط في إدارة الدولة وسيادة الظلم والاستبداد والفساد الإداري في كل مفاصل الدولة، اضطهاد المسلمين من أهل السنة وشيوع سب الصحابه.
وبدأت الأزمة مع انخفاض منسوب نهر النيل وجفاف وبوار الأراضي الزراعية، وعموم الفوضى جميع أنحاء البلاد وانتشار الجرائم، انقسام المجتمع واندلاع الصراعات الداخلية الأهلية، تفشي الأمراض والأوبئة بين عامة الشعب، وتوقف النشاط الصناعي والتجاري بسبب الغلاء والفوضى.
واستنجد الخليفة المستنصر بوالي عكا بفلسطين بدر الدين الجمالي من أرمينيا فوافق بشرط أن يأتي إلى مصر بجند من الشام واستغناؤه عن جند مصر، وأصبح وزيرا للمستنصر، وأتى بمساعدات لمصر، وقام بعزل ومحاسبة المسئولين الفاسدين في الدولة، وقضى على مروجي الفتن ودعاة الانقسام المجتمعي وقام برفع الأعباء المالية عن الشعب، وبدأ النيل في العودة الى منسوبه الطبيعي فقام بدعم وتشجيع الزراعة واستصلاح الأراضي البائرة من جديد.