نشرت "مجموعة 73 مؤرخين" المعنية بالبحث والتوثيق والدراسات العسكرية، قصة لجاسوس من أغرب القصص التي عفها التاريخ، حيث جند أحد الشباب أباه للعمل لصالح الموساد لأسباب تختلف عن المألوف فلم يجنده طمعا في المال أو السلطة أو الوعود بالنفوذ بل جنده بدون أسباب واضحة فسرها علماء النفس فيما بعد أنه مرض نفسي.
الشاب سمير وليم فريد باسيلي كان يختلف كثيرًا عن هؤلاء وغيرهم إذ دفع بوالده – عن عمد – إلى وكر الجاسوسية للانتقام منه وتشفيًا به وورطه في عمليات تجسس لحساب إسرائيل انتهت بمصير مهلك لكليهما.
وكان أحد تفسيرات علماء النفس لقصة سمير وليم ووالده أنهما مصابان بمرض "الجنون ذي الوجهين وهو مجموعة أعراض إكلينيكية قوامها خفض نغمة المزاج الوقتي وصعوبة التفكير الذي يغلفه القلق وتسلط الأفكار وتهيج بعض الأحزان والهموم.
ولأن حالة سمير باسيلي حالة فريدة من نوعها خضعت للعديد من التحليلات النفسية وضعته في النهاية في مصاف المرضى وصنفه "يوجان" على أنه "الدوني السيكوباتي التكوين والسيكوباتي هو دائمًا في حالة توتر لا يستفيد إلا قليلًا جدًا بالخبرة أو العقاب ولا يدين بأي ولاء حقيقي لأي مبدأ أو جماعة.
على مقهى برنسيس حصل سمير على الثانوية العامة بصعوبة شديدة عام 1960 وتوقف عن إكمال دراسته بأحد المعاهد. فالأب كان بخيلًا شديد البخل شرس الطباع في معاملته لأبنائه لا يترك قط مساحة ضئيلة من التفاهم تقربهم منه، وكره سمير في أبيه سلوكه فأدمن الخروج من المنزل والسهر مع أصحابه ولم تنطفئ برغم ذلك حرائق الصدام مع والده. لذلك فكر في السفر إلى ألمانيا بعدما ضاقت به الحياة وعضه الجوع.
وعندما عرض الأمر على أبيه لم يسلم من تهكمه وسخريته اللاذعة وذكره بالفشل الذي أصبح سمة من سمات شخصيته رافضًا بشدة إمداده بنفقات السفر رغم توسط بعض أفراد الأسرة. استدان سمير من أصدقائه ووجد نفسه فجأة على مقعده بالطائرة في طريقه الى ألمانيا، يتنفس الصعداء ويلعن الفقر ويسب والده الذي حطم كل الآمال لديه فأشعره باحتقاره لنفسه ودونيته وبث بأعماقه شعورًا مخجلًا بالضعف والحقارة.
تحركت به الطائرة على الممر وقبل أن ترتفع مقدمتها عن أرض المطار أخرج سمير منديله وبصق على معاناته وآلامه وحظه وفور وصوله أتصل بمعارفه لمساعدته وسريعًا حصل على وظيفة معقولة بشركة سيمونز الشهيرة فعاش حياة رائعة، وذات مساء جلس بجواره رجل أنيق ودار حديث بينهما وفهم سمير أن نديمه ينتظر صديقته وصاح "هاتز مولار" ينادي على صديقته "جينفيف يارد" في ترحاب زائد وعرفها على سمير باسيلي.
وكانت خطة السقوط التي رسمتها الموساد غريبة، فبينما كان سمير عاريًا في الفراش المستعر قالت له جين: أنت مصري رائع، أشعرتني بأن "للحب" مذاقات لذيذة أخرى. أجابها في ثقة: هذا ما تعلمته منكم، أخبرته جين أنها مضطرة لترك ميونخ في خلال أيام إلا أنه صمم على مرافقتها في رحلتها، وبعد إلحاح من باسيلي، أخبرته أنها تعمل لصالح الموساد الذي يستعملها كسلعة فقط، ردد الاسم ويبدو أنه لم يفهم إذ اعتقد أنهم جماعة من جماعات الهيبز التي كانت قد بدأت تنتشر في أوروبا وتطوف بالميادين هناك والشوارع.
أخبرته جين أن الموساد هي المخابرات الإسرائيلية وخيرته بين المواصلة معها أو الاستمرار في ألمانيا وقالت "كلفوني بالتعرف على الشباب العربي الوافد إلى ميونيخ، خاصة المصريين منهم وكتابة تقارير عما أعرفه من خلال حوارنا في السياسة والاقتصاد؛ لكنني فشلت فشلًا ذريعًا بسبب اللغة فالمصري أولًا ضعيف في الانجليزية لأنه يهتم بالدويتش، وهم أمهلوني لمدة قصيرة وعلى ذلك لا مكان لي هنا".
وبتوسل شديد يغمسه الحنان قالت له جين: تترجم لي بعض التقارير الاقتصادية من الصحف المصرية والعربية وليس هذا بأمر صعب عليك، قال: وهل المخابرات الاسرائيلية تجهل ما بصحفنا لكي أقوم بالترجمة لها؟
وأمام رغبته الجامحة وخدعة المشاعر أسلم مصيره لها تفعل به ما تشاء فجاءته بأوراق وكتب بخطه سيرة حياته ومعلومات عن معارفه وأقاربه ووظائفهم وعناوينهم في مصر. وطلبت منه بتدلل أن يمدها بأخبار مصر من خلال المصريين الوافدين إلى ميونيخ. فلم يعترض بل كان شرطه الوحيد أن تظل بجانبه.
هكذا سقط سمير في براثن الموساد. وبعد أن غرق لأذنيه في مهامه التجسسية تركته جين لتبحث عن غيره وانشغل هو باصطياد المصريين والتقاط الأخبار وقبع في مطار ميونيخ ينتظر الطائرات القادمة من مصر عارضًا خدماته على الوافدين للمرة الأولى الذين يسعدون بوجود مصري مثلهم يرافقهم إلى حيث جاءوا ويقوم بتسهيل أعمالهم في المدينة.
أشهر قليلة واستطاع أن يقيم شبكة واسعة من العلاقات خاصة مع بعض موظفي مصر للطيران وبعض المضيفين والمضيفات. ويعود إلى مسكنه في المساء ليكتب تقريره اليومي المفصل الذي يتسلمه منه مندوب من الموساد كل صباح ويقبض آلاف الفرنكات مكافأة له.
وبعد أن استقرت أموره المالية كثيرًا عرف أبوه طريقه فزاره في ميونيخ عدة مرات زاعمًا أن المشاكل الاقتصادية في مصر تضخمت وأنه يطلب مساعدته في الإنفاق على أسرته. كان سمير يتلذذ كثيرًا بتوسلات والده. بل يرسل في طلبه خصيصًا ليستمع إلى كلمات الرجاء تتردد على لسانه وليرى نظرات التودد تملأ وجهه. وتضخم الإحساس بالشماتة عند الابن تجاه أبيه حتى وصل إلى درجة الانتقام.
لقد دبر سمير كمينًا محكمًا لأبيه أوقعه في شراكه عندما صحبه إلى مكتب هانز مولار ضابط المخابرات الإسرائيلية في ميونيخ والذي يبدو في ظاهره مكتبًا للمقاولات ولأن وليم فريد باسيلي يعشق النقود أوضح له هانز أنه سبب الرفاهية التي يعيش فيها ابنه سمير. وأنه على استعداد أيضًا لبدء علاقة عمل بينهما وتأسيس شركة تجارية كبرى في القاهرة تدر عليهما ربحًا وفيرًا.
وطلب منه هانز معلومات اقتصادية عن السوق المصرية يستطيع من خلالها أن يحدد خطوطًا عريضة لنشاط الشركة ولبى وليم الدعوة وجلس عدة ساعات يكتب تقريرًا مفصلًا عن احتياجات السوق، وأحوال الاقتصاد في مصر.
دهش هانز لدقة المعلومات التي سردها وليم ومنحه فورًا 1000 مارك، ووعده بمبلغ أكبر مقابل كل تقرير يرسله من القاهرة.نشط الجاسوس الجديد "وليم الأب" في كتابة التقارير وإرسالها الى ألمانيا وفي الزيارة التالية لميونيخ فوجئ وليم بثورة هانز بسبب سطحية تقاريره المرسلة إليه. وقال له إن المكتب الرئيسي على استعداد لدفع خمسة آلاف مارك للتقارير المهمة وأنه على استعداد لتدريبه على كيفية جمع المعلومات وكتابتها بعد تصنيفها. وعندما سأله وليم عن المكتب الرئيسي أجابه بأنه في تل أبيب، وهو مكتب مختص بالشؤون الاقتصادية في دول العالم الثالث.
ارتبك وليم فناوله هانز خمسة آلاف مارك في مظروف مغلق قائلًا إنه هدية من إسرائيل من أجل التعاون المخلص. أما التقارير فلها مقابل أيضًا وتسلم وليم خمسة آلاف أخرى فانكمش في مقعده بعدما أدرك حقيقة موقفه ووضعه.
طمأنه هانز بأن علاقتهما لن تكشفها المخابرات المصرية، لأن هذه التقارير ليست مادة سرية فهي موجودة في الصحف القاهرية. وشيئًا فشيئًا تطورت العلاقة بين هانز ووليم إلى علاقة بين ضابط مخابرات وجاسوس خائن، تحددت بدورات تدريبية خاضها الأب على يد ضباط فنيين، وانتفخت جيوبه بآلاف من الماركات بعدما كثرت تقاريره التي كان يجيد كتابتها بعد تحليلها وتعمده مصادقة ضباط القوات المسلحة والعسكريين المسرحين من المحيطين به.
وفي كل زيارة لميونيخ كان هانز يحذره من قراءة قضايا التجسس في الصحف المصرية حتى لا يرتبك ويقع في قبضة المخابرات المصرية التي لا ترحم الخونة. وطمأنه على أسلوب عملهم الذي لا تستطيع المخابرات العربية كشفه. وحتى وإن حدث فهم سيتولون رعاية أبنائه والإنفاق عليهم من بعده "وقد ثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن إسرائيل تتنصل من الخونة بعد سقوطهم وأنها تأخذ فقط وتمنح قبل السقوط.
أما الابن سمير فقد اتسعت دائرة نشاطه في التعرف على المصريين الوافدين وتصيد الأخبار منهم من خلال الدردشة العادية وهؤلاء الذين فشلوا في الحصول على عمل وشرع بالفعل في تجنيد ثلاثة من المصريين. استطاعوا الرجوع الى مصر وأخبروا جهاز المخابرات المصرية بتصرفات سمير ودوره في محاولات الإيقاع بهم لصالح المخابرات الإسرائيلية بواسطة فتيات جميلات يجدن استعمال لغة الجسد.
لقد جاءت البلاغات الثلاثة في فترة قصيرة ومن أشخاص لا يعرفون بعضهم، وكانت خطة المخابرات المصرية لاصطياد سمير وأبيه محسوبة بدقة بالغة وإحكام.
كان وليم قد افتتح مكتبًا كبيرًا للمقاولات في القاهرة استطاع من خلاله أن يمارس عمله في التجسس وجعل منه مقرًا للقاءاته بالأشخاص الذين يستمد منهم معلوماته خاصة من العسكريين الذين أنهوا خدمتهم. حيث إنهم في الغالب يتفاخرون دائمًا بدورهم وبعملهم السابق بصراحة مطلقة أمام الأشخاص الذين يبدون انبهارًا بما يقولونه ويسردونه من أسرار عسكرية وتفاصيل دقيقة. وفي أحد الأيام فوجئ وليم برجل ثري عائد من الخليج يريد الاستفسار عن إمكانية فتح مشاريع استثمارية وعمرانية كبيرة.
كان الرجل قد أمضى في الخليج سنوات طويلة ويجهل حاجة السوق المصرية للمشروعات وتباهى وليم في سرد خبراته مستعينًا بإحصائيات تؤكد صدق حديثه واستطاع إقناع المصري الثري بقدرته على اكتشاف حاجات السوق وإدارة المشاريع. وبدأ أن الرجل قد استشعر ذلك بالفعل إلا أن حجم ثروته ورغبته في عمل مشاريع عملاقة استدعى من وليم الاستعانة بخبرة سمير فكتب له يطلب مجيئه وألح عليه في ذلك وجاءه الرد من ابنه يخبره بميعاد قدومه.
وما هي إلا أيام حتى جاء الابن إلى القاهرة بصحبته شاب ألماني وصديقته أرادا التعرف على الآثار الفرعونية فصحبهما سمير إلى الأقصر حيث نزلوا بفندق سافوي الشهير على النيل ثم مكثوا يومين في أسوان وعادوا الى القاهرة.
كان سمير طوال رحلته مع صديقيه يقوم باستعمال كاميرا حديثة ذات عدسة زووم في تصوير المصانع والمنشآت العسكرية طوال رحلة الذهاب والعودة وفي محطة باب الحديد حيث الزحام وامتزاج البشر من جميع الجنسيات وقف سمير أمام كشك الصحف واشترى عدة جرائد. وبعدما هموا بالانصراف استوقفه شاب أنيق يرتدي نظارة سوداء برفقته أربعة آخرين وطلب منه أن يسير بجانبه في هدوء.
ارتسمت على وجه سمير علامات الرعب وحاول أن يغلفها ببعض علامات الدهشة والاستفهام لكنه كان بالفعل يرتجف.اعتذر الرجل الأنيق للضيف الألماني وصديقته وودعهما سمير بلطف ومشى باتجاه البوابة إلى ميدان رمسيس يجر ساقيه جرًا محاولًا أن يتماسك وحملوه منهارًا إلى مبنى المخابرات العامة ليجد والده هناك وفورا اتهم سمير والده أنه السبب واكتشف وليم أن الثري القادم من الخليج ما هو إلا ضابط مخابرات واكتشف أيضًا أن تقاريره التي كان يرسلها إلى الخارج تملأ ملفًا كبيرًا. وكان الحكم في مايو 1971 عادلًا لكليهما، الإعدام للإبن و15 عامًا أشغال شاقة.