إطلالة على الذاكرة الثقافية "المشتركة" للمصريين واللبنانيين

ميشال عون
كتب :

يبدأ الرئيس اللبناني ميشال عون زيارته لمصر اليوم "الاثنين" لمصر بدعوة من الرئيس عبد الفتاح السيسي وسط تأكيدات المحللين والمعلقين على أهمية القمة المرتقبة في القاهرة بين الرئيسين وتطلع العالم العربي لنتائجها فإن هذه الزيارة المهمة تنطوي على فرصة لإطلالة على "الذاكرة الثقافية المشتركة" والتواصل المجتمعي بين الشعبين الشقيقين والتفاعل والتمازج بينهما على مر العصور.

وها هو سياسي لبناني مثل أمين الجميل الذي ينتمي لعائلة سياسية شهيرة وشغل من قبل منصب رئيس الجمهورية اللبنانية بين عامي 1982 و1988 يقول في سياق مقابلة صحفية أن مصر هي أم الدنيا و"علاقاتنا علاقات مميزة ونعتبرها الراعي الأول لكل الشئون العربية" فيما نوه بأن "والدته مصرية ولدت في مصر وعاشت في مدينة المنصورة".

وواقع الحال ان التفاعل الثقافي بين المصريين واللبنانيين يشكل نموذجا مضيئا للتواصل بين الأشقاء ويكاد يصل لحد التمازج عبر العصور المديدة ليكون الأساس الراسخ للتواصل المجتمعي الممتد دوما بين الشعبين الشقيقين.

وهذا التمازج بين المصريين واللبنانيين له تجليات شتى من بينها مثلا ان شيخ المؤرخين المصريين في العصور الوسطى تقي الدين المقريزي ينحدر من اب لبناني الأصل ينتمي لمدينة بعلبك وام مصرية وقد ولد في "حارة برجوان" بمنطقة الجمالية في القاهرة المعزية.

وفي التاسع من شهر اكتوبر الماضي شهدت القاهرة انطلاق "الملتقى الثقافي المصري اللبناني" الذي نظمته مؤسسة الأهرام بالتعاون مع الجمعية المصرية اللبنانية لرجال الأعمال فيما كان هذا الملتقى فرصة ثمينة لمناقشات جادة وطروحات متعددة لمثقفين مصريين ولبنانيين حول جوانب متعددة في العلاقات الثقافية بين البلدين الشقيقين.

وفي طرح حول العلاقات الثقافية بين مصر ولبنان يلفت الدكتور عماد ابو غازي وزير الثقافة المصري الأسبق الى ان لبنان حاضر في الوجدان المصري منذ فجر التاريخ الانساني وعلى مستوى "الأسطورة الأوزيرية" التي تقول إن ايزيس تتبعت تابوت زوجها الحبيب اوزيريس بعد أن خرج من نهر النيل إلى البحر الواسع متجها نحو الشرق "لتحتضنه شجرة أرز في مدينة جبيل اللبنانية".

وفي محاضرة "ببيت مري" بلبنان في أواخر اربعينيات القرن العشرين أشار عميد الأدب العربي الراحل الدكتور طه حسين إلى المعنى ذاته عندما تحدث عن التعاون بين مصر ولبنان لنشر الحضارة والثقافة منذ فجر التاريخ.

وكانت توصيات الملتقى الثقافي المصري اللبناني قد تضمنت "العمل على جمع تراث النهضة في البلدين الذي يعود إلى أكثر من قرن عبر الدوريات والمطبوعات والكتب واعمال الفنانين.

كما أشار المفكر والسفير اللبناني السابق في القاهرة الدكتور خالد زيادة فإن مئات من المتعلمين والمثقفين اللبنانيين توافدوا على مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ووجدوا فيها بيئة ملائمة لممارسة الوظائف الثقافية وإطلاق مواهبهم في الكتابة والتعبير عن آرائهم وأفكارهم التنويرية وأسسوا الصحف ودور النشر كما اسهموا في نهضة المسرح.

ولن ينسى التاريخ أسماء لبنانية حاضرة بقوة في الثقافة المصرية مثل "شاعر القطرين" خليل مطران الذي ولد عام 1872 في بعلبك وعاش اغلب سنى حياته في مصر حتى قضى في القاهرة عام 1949 وكذلك الأديبة مي زيادة والفنانة والصحفية روز اليوسف ناهيك عن بشارة وسليم تقلا اللذين اسسا جريدة الأهرام يوم السابع والعشرين من ديسمبر عام 1875.

وكان الدكتور طه حسين قد اكد على "فضل لبنان على الأدب الحديث والصحافة في مصر والشرق العربي" منوها بأسماء أعلام من لبنان "كاليازجي والبستاني وصروف وزيدان" فيما يرصد المثقف والأكاديمي اللبناني البارز مسعود ضاهر جوانب هامة لتمازج اللبنانيين والمصريين في كتابه "هجرة الشوام: الهجرة اللبنانية الى مصر".

وحسب هذا الكتاب كانت دمياط اولى المدن المصرية التي استقبلت الهجرات اللبنانية ومنها انتشروا في اتجاه المنصورة والزقازيق وطنطا ثم القاهرة فضلا عن الأسكندرية وكان من بينهم العديد من المثقفين والفنانين الذين قدر لهم إطلاق طاقاتهم الإبداعية بمصر المحروسة.

والدكتور مسعود ضاهر يتحدث في هذا الكتاب عن عملية اندماج العديد من المثقفين اللبنانيين في الكتلة السكانية المصرية منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين وانخراطهم النشط في أوجه الحياة المصرية ومن بينها الأنشطة الثقافية والاقتصادية كما تناول المفكر اللبناني كريم مروة الحضور الثقافي اللبناني في مصر في كتابه :"الرواد اللبنانيون في مصر".

والحضور اللبناني واضح أيضا في كتاب "الشوام في مصر منذ الفتح العثماني حتى أوائل القرن التاسع عشر" فيما يقول المؤلف الدكتور السيد سمير عبد المقصود السيد إن مصر وبلاد الشام-ومن بينها لبنان- امتداد طبيعي وأواصر الصلة بينهما ممتدة منذ أقدم العصور وحتى يومنا هذا .

وأضاف :"أجمع الباحثون والمؤرخون على أنه لم تكن هناك معلومات دقيقة حول بداية هجرة الشوام إلى مصر إلا أنهم أقروا أنها ترقى إلى آلاف السنين حيث الامتداد الجغرافي والروابط التاريخية والاقتصادية والثقافية والدينية على مر العصور".

ويعتبر مؤلف هذا الكتاب أن "هجرة الشوام إلى مصر حركة انتقال طبيعية بين أبناء المناطق ذات الروابط التاريخية والجغرافية والدينية والإرادة على العيش المشترك"، موضحا أنه في إطار السياسات العثمانية "استقرت مجموعات من الشوام في مصر.

وقد شارك هؤلاء الشوام بمختلف مللهم في جميع الأنشطة الاقتصادية والثقافية بمصر وقامت علاقات اجتماعية قوية بينهم وبين طوائف المجتمع المصري تمثلت في الزواج والمصاهرة فيما كانت هذه العلاقات قائمة حتى في العصر المملوكي.

وهذا الكتاب في الأصل رسالة علمية حصل بها صاحبها على درجة الدكتوراه من كلية الآداب بجامعة الزقازيق ليضاف إلى مجموعة من الكتب والأطروحات التي تناولت مسألة هجرة الشوام-ومن بينهم أبناء لبنان-لمصر ومن بينها كتاب "السوريون في مصر" للخوري بولس قرالي و"السوريون في مصر خلال القرن 18 ,19 "لألبير حوراني.

ومن المنظور التاريخي يقول الدكتور السيد سمير عبد المقصود :"هاجرت إلى مصر إبان العصر العثماني مجموعة كبيرة من الشوام حيث استقبلتهم مصر وفتحت لهم ذراعيها ولم يلق هؤلاء الشوام أية صعوبة في الاندماج في المجتمع المصري".

وباستقراء سجلات المحاكم الشرعية يتضح أن أكبر تجمع للشوام كان حول مناطق القاهرة الفاطمية في "الحمزاوي الكبير والصغير وخان الخليلي والمشهد الحسيني والغورية والجمالية وخط أمير الجيوش والخرنفش وباب زويلة وباب النصر وباب الفتوح وبين القصرين".

وإلى جانب ممارسة الشوام للنشاط الاقتصادي والاجتماعي أيامئذ فقد لعبوا دورا ثقافيا هاما سواء المسلمون منهم أو المسيحيون بالاشتراك مع اخوانهم المصريين كما يقول الدكتور السيد سمير عبد المقصود في كتابه.

فالعلاقات بين الشعبين المصري واللبناني علاقات نشطة وفعالة وخاصة على الصعيد الثقافي وهكذا يعتبر الدكتور محمود حداد استاذ التاريخ العربي الحديث والمعاصر في جامعة البلمند اللبنانية ان "المحور الثقافي اللبناني المصري ظل المحور العربي الأنشط منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى نهاية ستينيات القرن العشرين".

وفيما شملت روائعه في النحت تمثالا لداوود بركات رئيس تحرير جريدة الأهرام الأسبق واحد المعبرين عن حقيقة التفاعل الثقافي بين لبنان ومصر يصف الفنان اللبناني بياركرم المدرسة المصرية في النحت بأنها "رائدة في الشرق" معتبرا ان الفنان المصري الراحل محمود مختار من النادر ان يتكرر وهو من اهم نحاتي الشرق وكذلك الفنان المصري الراحل جمال السجيني.

واذا كان الكاتب الصحفي اللبناني المرموق سمير عطاالله قد تساءل بألم مؤخرا عن موقع المثقف العربي وصوته في "هذا الضياع القاتل عبر حدود الأمة" فان المثقف اللبناني الدكتور محمود حداد يرى ان مهام المثقفين العرب اليوم باتت صعبة للغاية في ظل الهوة الكبيرة بين الخصوصية والعالمية وهي هوة اتسعت مع ثورة الاتصالات المدهشة، غير أنه "لا يجوز أن نسمح للحداثة وما بعدها وللعولمة الجارفة أن تفقدنا أنفسنا".

ولئن قال عميد الأدب العربي طه حسين :"من حق مصر أن تحتفي بلبنان ومن حق لبنان أن يكون بمصر حفيا فهذان الوطنان الكريمان قد تعاونا دائما على الخير" فان مصر تحتفي اليوم بلبنان في شخص الرئيس ميشال عون..انه حب ممزوج بالعصور وعناق محبة بين الوادي والجبل ..بين النهر والبحر..وبين نخيل النيل واشجار الأرز في جبل لبنان.

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً