رحل محمد حسنين هيكل صانع أسطورة جمال عبد الناصر، بهدوء على فراشه 17 فبراير 2016 عن عمر الثالثة والتسعين، وتناقلت الروايات امتناعه عن تناول الطعام والدواء في أيامه الأخيرة التي اشتدت فيها المرض كأنما يسمح للموت أخيرًا أن يغزو جسده التسعيني. بالنسبة لهيكل، ربما يكون الرحيل بهذه الطريقة الهادئة انتصارًا أخيرًا ساخرًا يحققه في وجه التاريخ ولعل هيكل أدرك أن انتصاره في الثالث من يوليو حصل في غفلة من التاريخ، وأن الزمن لم يعد متواطئًا معه كما كان في الماضي، بل أصبح أمامه في موقع الخصم، فآثر الرحيل على أن يشهد هزيمته بنفسه.
ولم يكن هذا الغياب النهائي هو الغياب الأول له، فقد أختفي لعدة مرات سابقة فكر فيها أن "يغيب ولا يختفي" على حد قوله؛ أولها كانت عقب وفاة جمال عبد الناصر في سبتمبر 1970، والثانية كانت عقب خلافه مع أنور السادات في منتصف السبعينات، والثالثة كانت في 2003 بمناسبة عبوره للعقد التاسع من عمره وهي اللحظة التي كتب فيها ما أسماه: "استئذان في الانصراف: رجاء ودعاء.. وتقرير ختامي".
و بالرغم من رحيله لقد ترك كتاب "معالم في طريق طويل" ليعيد لنا مشاهد عاشها الأستاذ وكأنه بيننا الآن وكان من أهم هذه المشاهد "لحظات بكي فيها هيكل".
1-النكسةفي يوم الجمعة 9 يونيو 1967، كان يومًا طويلًا مع الرئيس جمال عبد الناصر، بدأ من السابعة صباحًا حتي السادسة مساء، وكان الهدف الأساسي من المقابلة هو مشروع خطاب التنحي الذي سيقدمه للأمة.و قال "هيكل" في كتابه "معالم في طريق طويل" في الدقيقة الأخيرة من اليوم كان سؤال ناصر الأخير عن علاقتي بالسيد زكريا محيي الدين، وقلت له إنني لا أنوي تكرار ما قمت به معه، ولكني قابل تكليفه لي لمعرفتي بدقة الظروف حتي يتمكن زكريا من تسلم مسؤولياته. ونهضنا نحن الاثنان. وتصافحنا. ولمحت دمعة في عينيه لأول مرة في حياتي. واستدرت خارجا من غرفة مكتبه، فلم أكن أريده أن يري دمعة أخري في عيني، وكالباقي أصيب بحالة اكتئاب، ولكن وهو يحتل منصب تحرير صحيفة، و مسئول عن ركن الفكرة في ما تمثله ثورة 23 يوليو، لم يستطع أن ينكمش ويقع وينهار، بينما يري الناس تخرج وتتحدي وترفض نتيجة الصراع لحظتها، وقال الأستاذ في كتابه ربما أنني كنت من الداخل ممزقا، لكن ما يثير حيرتي، كمية هذا الجلد للذات وللضمير المصري والقوة المصرية والإرادة المصرية لا لزوم له، فكل أمة من الأمم واجهت كارثة ومحنة من فرنسا إلي اليابان، لكن في وقت الأزمات تتحدد فيها مصائر أمم وشعوب لا تملك أن تترك نفسك للانفعالات، نعم كنت متماسكا، لأن هناك مقادير.
2-نكبة فلسطينو في 1948 قال الأستاذ وأنا أري الجيش المصري يستعد للإنسحاب من مدينة المجدل وقفت علي سفح الهضبة العالية التي تقبع فوقها غزة.وما زلت أذكر منظري في تلك الساعة، واقفًا تحت شجرة علي طريق غزة – دير سنيد ولم أشعر إلا وأنا أغطي عيني بيدي باكيًا، وأذرف الدموع كأنها جمرات نار.
3-حريق القاهرةو تابع "هيكل" في كتابه "معالم في طريق طويل" كنت في مكتبي في جريدة "أخبار اليوم"وخرجت فور سماعي خبر اشتعال القاهرة بالنار، إلي شارع فؤاد وإلي شارع سليمان باشا وإلي شارع قصر النيل وإلي شارع إبراهيم باشا كانت ألسنة اللهب في كل مكان، وكانت الفوضي هي التي تحكم وتملك.وعاد إليّ نفس الشعور الذي أحسست به في غزة.حريق القاهرة كان البرهان الساطع لنهاية النظام الملكي كله، لكن لا التيار الليبرالي الممثل بحزب الأغلبية وقتها الوفد وباقي أحزاب القصر (الهيئة السعدية، الأحرار الدستوريين، الكتلة الوفدية، والحزب الوطني)، ولا التيار الديني الممثل بحركة الإخوان المسلمين، ولا التيار الشيوعي الممثل بالأحزاب الماركسية الثلاث، جميعهم كانوا من الوهن والضعف من أن يفكروا بالاستيلاء علي الحكم وقلب النظام، كلهم توجسوا خيفة أمام المسؤولية والتصدي للشرعية، جميعهم ارتاعوا من الملك وجبنوا أمام قوة الاحتلال.والحقيقة كل القوي كانت قد تآكلت، فالتيار الليبرالي تآكل بعد قتله مؤسس حركة الإخوان المسلمين "حسن البنا"، والتيار الإسلامي تآكل بنكثه لعهوده، فمن حركة دعوية لنظام خاص قام بعمليات اغتيال وتفجير وترويع، والتيار الشيوعي تآكل بموقفه مما كان يجري في فلسطين. ونزل الأستاذ هيكل من مبني جريدة أخبار اليوم إلي شارع فؤاد ومعه زميله وصديقه الأستاذ محمد يوسف المصور الأشهر في ذلك الوقت.فبعد الانتفاضة الشعبية، انقض السواد الأعظم يعرب عن نفسه، بزيادة اللهيب اتقادا، وبالسطو والسرقة،ومن ثم اقتضت الأمور نزول الجيش.
4-وفاة عبد الناصرو قال هيكل كانت المرة الرابعة في أثناء اللحظة الرهيبة التي وقفت فيها بجوار فراش جمال عبد الناصر وهو يجود بالنفس الأخير، لم أبكه لحظتها!وتابع أتممت أيامًا بعد “الرحيل” لا أقدر علي التصديق، وأياما أخري أعقبتها لم أتمكن من التخيل،هذه هي سفرته الأولي التي يذهب فيها ولا أكون في رفقته.و أضاف ثلاثة أيام انقضت بين لحظة الرحيل حتي هجع في مثواه الأخير.. كفنا ابيض طاهر فوق فرشة من الرمال في قبر أقيم علي عجل خلف مسجد بناه بنفسه.
5-نوستالجيافي 28 سبتمبر 1981، قال "هيكل" كنت في سجن طره، جميعنا تقريبا عزم علي أن نحيي ذكري رحيل الرئيس جمال عبد الناصر، كنوع من التصدي لكل ما كان جاريًا.كان الرئيس السادات أيامها في بداية النهاية، في الصباح سرت إشاعة بأنهم يجهزون معتقل جبل الطور في صحراء سيناء لترحيلنا إليه قبل المغيب.في المساء تزاحم الخطباء يرثون الرئيس ناصر خلال قضبان سجن السادات.كنت منذ بداية اليوم أشعر أن هناك دمعة مترددة تغشي باب العين، لكني لم أذرفها، ربما لأننا كنا نحيي الذكري كنوع من التصدي لا من الألم.في لحظة من لحظات هذا اليوم تذكرت تفاصيل اليوم الأخير من حياة ناصر، وتذكرت آخر كلماته في آخر مكالمة تليفونية سمعت فيها صوته: "أنا بحاجة لاستراحة طويلة".. وآخر لمحة ألقيتها علي جثمانه، هي كلها تفاصيل لا تفارق الذاكرة ولا القلب لا في أيام الراحة ولا في أيام الأسي.
6-استشهاد الساداتيتذكر هيكل قائلًا في كتابه في الثلاثاء 6 أكتوبر 1981، ساعة أن أبلغني العقيد محمود غنام نبأ اغتيال الرئيس أنور السادات،لم أستطع أن أذكر إلا أنه كان صديقًا، وإذا بالدموع في عيني تجري.لقد عشت معه عشرين عامًا كأصدقاء، أصغر أبنائي (حسن)، أنا أعرف كيف كان ضعف السادات تجاهه. وتذكر الأستاذ إحدي مواقفه مع الرئيس الراحل أنور السادات قائلًا طلب الأستاذ هيكل أوراقًا ليكتب عليها ولو مجرد إشارات لما يمكن أن تسفر عنه المناقشات ، وطلب الرئيس السادات حقيبة يده وكانت في سيارة الحراسة التي تتبع سيارة الرئيس. وأخرج منها مجموعة أوراق تحمل شعار الدولة واسم الرئيس. والغريب أنه لم يكن مع الأستاذ هيكل قلم وأخرج الرئيس السادات قلما وراح يجربه علي أول ورقة من مجموعة الأوراق التي أخرجها، واختار أن يجرب قلمه بكتابة اسم أصغر أبناء الأستاذ "حسن هيكل"، وكان أقربهم جميعًا إلي الرئيس السادات.
7-أحزان في حياة "هيكل"الشخصيةقال الأستاذ مسردًا أحزان في حياته الشخصية بكتابه الأقرب إلي ذاكرتي الآن هو غياب شقيقي الوحيد المهندس فوزي ، رغم تجاربي الكثيرة مع لسعات الأسي، هناك من يتخيل أن ما يتبقي من المغادرين عنا في حياتنا هو بكاؤنا في وداعهم أو ذكرياتنا معهم.