مأساة حقيقية تعيشها عزبة النواجي شمال مدينة ساحل سليم بأسيوط، بعد تفحم ربة منزل وأطفالها الخمسة، حيث التهمت النيران منزلهم بسبب تسرب الغاز من أسطوانة بوتاجاز.
التقت "أهل مصر" جيران الضحايا، وشهود العيان في العزبة التي تبعد نحو 21 كيلو متر جنوب مدينة أسيوط.
هنا في عزبة النواجي تنقش خطوط الفقر وجوه أهلها البائسين، الذين لا ينالون قوت يومهم الا بعد عناء شديد، يطل الحزن من جنبات الشوارع الترابية وجدران المنازل التي شيدت منذ عشرات السنين من الطوب الأخضر والطين
لا يعرف رجالها سوى العمل أجير باليومية في الأراضي الزراعية، أو الفاعل، ورغم مشقته إلا انهم يتمنون أن يستمر طوال العام، حتى يجدوا مصدرا للرزق، عندما تسألهم يجيبون "اللي رماك على المر"، من بينهم من لم يخرج للعمل منذ أسبوع أو أسبوعين وبدلا من أن يعتبر الفترة راحة، ينتظرون حتى هذا المشقة التي لا تتوافر طوال السنة
وفي منزل عبد التواب محمود، الخفير النظامي بمركز شرطة ساحل سليم، يزداد الحال بؤسا عن حال القرية، وكان يعيش راضيا براتبه الضعيف الذي. يقتات ويتعلم منه 5 أطفال وزوجه يتيمة الأبوين ووحيدة لا سند بعد ربها سوى زوجها، لكن حال المنزل البسيط لم يستمر وتحولت الابتسامة الهزيلة داخل المنزل الى رماد وحطام، بعد أن التهمت النيران المنزل وتفحمت ربة المنزل وأطفالها الخمسة الذين لا يبلغ اكبرهم سوى 10 سنوات.
هنا كان يلعب أحمد ومنذ ساعات كنّا نسمع صوت محمد يبكي وبجانبه صوت صفاء الأم الشقية وهي تدلله بكلمات غنائية لعله يسكت، وأمام المنزل كانت تلعب أسماء وريهام ويأتي والدهم عبد التواب يهرول عليهما حتى تدخلا من برد الشارع، أما اليوم فلم تخرج ياسمين مع زميلاتها الى المدرسة كعادتها، فقد خرجت الى مثواها الأخير ولن تعد ثانية.
داخل المنزل المحترق
عندما تدخل المنزل أول ما ترى عيناك هو غرفه "عشة" على يمينك لبعض الطيور بها دجاجتين هما حصيلة ما تبقى من قاطني المنزل، وعلى يسارك وانت تقف في نفس المكان صنبور قديم أسفله حوض أسمنتي ممتلىء بمياه سوداء اتسخت من الحريق هذا الصنبور تستخدمه صفاء في كل اعمال المنزل فلا يوجد في بيتها البائس سواه.
وأمامك وأنت في نفس المكان مازالت بعض ملابس ياسمين أحمد ومحمد وأسماء وريهام داخل غسالة بدائية أبت أن تفرط فيهم للنيران التي التهامتها وكأنها تحتفظ بذكرى منهم أو رائحتهم.
لا تنسى أن تقف على حطام السقف بعدما سقط في الأرض بسبب شدة النيران وكميات المياة التي حاول الأهالي اخماد الحريق بها، وفي الداخل
هذه الطاقة الصغيرة "شباك مفتوح من جانب واحد داخل المنزل" لم يتبقى من المرآه الصغيرة البائسة التي كانت تتزين أمامها صفاء سوى قطعة زجاج وبروازها الأزرق الذي التهمت النيران ما يقرب من نصفه وكمية من شعر رأسها الناعم الفاتح الذي يتعلق بالمشاطة أثناء تسريحه وتحتفظ به صفاء لتلقي به في النيل تكمله لعادات علمتها لها والدتها، حيث أبدى شعرها أن تحرقه النيران التي دمرت الأخضر واليابس، ويظهر من خلف برواز المرآه ماشطة حمراء احترق نصفها
اما غرفتي النوم ليس بهما نوافذ على الشارع إنما نافذتيهما على صالة صغيرة مساحتها نحو متر في متران ونصف، ولم يمهل الفقر صاحب المنزل أن يضع على بابي الغرفتين أبواب خشبية، مشهد الغرفتين يعبر تماما عن الجثث التي تفحمت بالداخل فلا مظهر لأي حياة بعد أن التهمت النيران المنزل، حتى مراوح السقف قد أسدلت أجنحتها حزنا على اَهلها واستسلاما للهيب النيران
شهود العيان
قال جمال حمدان، شاهد عيان، أن المنزل لا يزيد عن 80 مترا وعبارة عن غرفتين من الداخل بهما نافذتين وأبواب الغرفتين والنافذين بدون شبابيك خشبية، أمام الغرفتين طرقة صغيرة جدا "مشاية" بها بوتاجاز ضعيف وثلاجة عفى عليها الزمن، وخارجها صالة اخرى صغيرة بها كنبة بائسة.
وأضاف "حمدان" أن عبد التواب محمود، رب الأسرة، كان يعد الشاي هو وزوجته لكن أسطوانة البوتاجاز كان متسرب منها كمية كبيرة من الغاز وعندما حاول تشغيل البوتاجاز اشتعلت النيران بصورة كبيرة، فهرول الأب عبد التواب محمود خارج المنزل والنيران مشتعله فيه ويصرخ انقذوا ابنائي وزوجتي ثم سقط مغشيا عليه، أما صفاء رفضت الخروج وهرولت نحو أبنائها لكنهما لم يتمكنوا من الخروج من الغرفتين لأن النيران كانت أمامهم ولا يوجد بالغرفتين أي نوافذ على الشارع، وتحول المنزل إلى كتلة نيران ولم يستطيع احد من الأهالي الدخول بسبب شده النيران، وقمنا بتكسير فتحة من احدى الغرفتين من الشارع الخارجي المجاور للمنزل لكننا ايضا لم نستطيع الدخول ولن نرى شيئا من شدة النيران والدخان، واتصلنا بالمطافىء ولم تأتي فذهب اليهم بعض الأهالي فأخبرونا انهم لن يتحركوا إلا ببلاغ من مديرية أمن أسيوط، ورغم أن المسافة بين المنزل ووحدة الاطفاء نحو 5 دقائق الا أن سيارات المطافئ وصلت بعد نحو ساعتين بسبب اهتمامها بالروتين أكثر من أرواح البشر، وتسائل ذنب الخمس أطفال اللي ماتو وأمهم في رقبة مين؟ عند الشرطة ولا المطافئ ولا مجلس المدينة، احنا نسأل مين عن هؤلاء الضحايا وعن هذه الكارثة.
وتابع القرية ليس لديها اي إمكانيات لمواجهة أي حرائق وأبواش الحريق "المواسير" في الشوارع لا تعمل وبدون مياه منذ تركيبها من 3 سنوات
وأوضح أن أبواش الحريق في الشارع لا تعمل وعندما نتحدث للمسؤولين يقولون قضاء وقدر، مركز ساحل سليم بالكامل به سيارة إطفاء واحدة ووصلت إلينا ونحن حي في المدينة بعد ساعتين فما بالك لو الحريق في قرية بعيدة متى ستصل اليهم، وإذا حدث حريقين في وقت واحد هاتروح لمين فيهم، ووضحوا أن الحرائق تتكرر بشكل دائم لدينا ويقوم الأهالي باطفائها بأنفسهم.
وأشار خلف قطب، أحد شهود العيان الذين شاركوا في إطفاء الحريق أن المطافئ وصلت بعد ما يقرب من ساعتين وكان طاقم الاطفاء عبارة عن فردين فقط وليس لديهما أي إمكانيات لإطفاء الحريق حتى أن خوذات الرأس لم تكن معهما، فأحضرت لهما بعض الملابس وبللتها بالماء لوضعها على رأسيهما لحمايتهما من النيران المشتعلة بالداخل والتي تتساقط من السقف المصنوع من جذوع النخيل والخوص، وكان رجل الاطفاء نفسه لا يستطيع التنفس من شدة الأدخنة، لكننا ساعدناه على الدخول
وتابع ان الأهالي شاركوا بكل طاقتهم فكان من يحمل خراطيم المياة من أسطح المنازل المجاورة ومنهم من أتى بالمياه في الأواني، الكل كان يحاول اخماد النيران دون جدوى فسرعان ما انتقلت بين الغرف الضيقة المعرشة بجذوع الشجر والجريد، و بعد ما يقرب من ساعة ونصف من الحريق تمكنا من اخراج جثث الضحايا الستة متفحمة لا تظهر عليها أي ملامح فاكبر الأطفال كان 10 سنوات، ووضعنا أقمشة بيضاء على رؤوسنا ووجوهنا لتحمينا من الأدخنة ودخلنا من الفتحة التي ثقبناها في الحائط أخرجنا الأم وطفلين من غرفة و 3 أطفال من الغرفة الأخرى
وقال أحد شهود العيان أن الأم صفاء أحمد سعيد، ضربت مثالاً صارخا لمشاعر الأمومة، وأبت أن تحيا دون أطفالها فوجدناها تحت الانقاض ملقاه على ظهرها في حالة تفحم وتحضن بين ذراعها وصدرها رضيعها محمد، 5 شهور في حالة تفحم وتمسك في يدها الاخرى الابن الثاني أحمد صاحب العامين، لم نتعرف على أحمد سوى من أحشائه التي خرجت من بطنه من شدة النيران، وفي الغرفة المجاورة كن الثلاث فتيات ياسمين وأسماء ونوهان واسم شهرتها "ريهام واخرجناهن من تحت الأنقاض متفحمات أيضاً
- الجيران
درويش مصطفى عبد العال، أحد الجيران، يقول أنا كنت في الشارع بالقرب من الباب وقت وقوع الحريق وفجأة سمعت صوت عالي جدا فنظرت وجدت النيران وقد ارتفعت نحو 10 أمتار واختفى المنزل وسط النيران، في البداية ظننت أنه منزلي، وعندما اقتربت وجدته منزل عبد التواب محمود، وخرج عبد التواب يصرخ من المنزل والنيران كان تمسك به.
وقال محمد شحاته كنّا في الشارع وقت الحريق ووجدنا عبد التواب يهرول من منزله والنيران تمسك به وقمنا باطفائه ونقلته الإسعاف بعد وصولها، والى الان لم يعلم وهو يرقد بالمستشفى بنبأ موت زوجته وأبنائه الخمسة
وتابع "شحاته" أن عبد التواب محمود، خفير في مركز الشرطة لا يملك سوى راتبه ينفق به على زوجته واطفاله الخمسة، تربطه بالجيران علاقات طيبة، فهمو من عمله لمنزله، كل الناس بتحبه وحزنت على ما حدث له.
وأضاف أحمد محمد شاهد عيان أن الأمن والمطافئ فشلوا في إدارة الأزمة وأن ضابط الدفاع المدني اخر شخص جاء إلينا، وأحد القيادات الأمنية لما قولتله المطافئ اتاخرت قالي روح روح على بيتك، اروح ازاي وانا واخد من اللي اطفأوا الحريق قبل ما ييجي هو، المفروض أنه يحاول يحتوي الأزمة خاصة مع تقصيرهم مش يثير غضب المواطنين، وفال البلاغ كان بانفجار أسطوانة بوتاجاز ازاي ييجي فردين فقط بدون أي إمكانيات
وأعرب أهالي منطقة النواجي، عن استيائهم من أحد القيادات الأمنية الذي قال لهم أن الضحايا من العالم المتخلف وأنهم لم يدفعوا ضرائب، يعني هو ماسك مأمورية الضرايب وشايف مين دافع ومين لأ، وكيف لشخص في وزارة الداخلية أن يتعامل مع الأهالي بطريقة سيئة، ويقول لنا أنتم نتيجة تخلف 5 آلاف سنة مين يدافع عن حق المواطن الغلبان لما هو يعمل كده، نسأل مين عن حقوقنا، ومين يحاسب المسؤولين عن الكوارث التي يفعلونها، اذا واخد قتل بياخد إعدام، اذا مين هايتحاسب على 6 ضحايا ونخشى أن تحفظ القضية، الخفير الغلبان ده لم يأخذ شيئا من الدنيا سوى راتبه وحتى المنزل المسقوف من جذوع الشجر والجريد الذي يعيشون فيه فهو ملكا لزوجته الذي ورثته من أبيها.
وقالوا في الدولة الخارجية المواطن أغلى ما تملك أما في مصر المواطن يداس بالجزم،
وقالت أم محمد، احدى جارات صفاء انا كنت في البيت بتاعي وسمعت صوت عالي حدا خرجت من البيت اجري لقيت الخص "السقف" وقع في هذا الشارع الصغير ومن شده الفزع وسقط على وجهي بالقرب منه ولكن جارتي تمكنت من سحبتني من النيران، وأصيبت بحروق سطحيه في وجهي، وظللت اصرخ انا وهي حتى جمعنا الأهالي، والكل سحب الخراطيم وطلعوا على الأسطح لان منزلهم ليس به أي نوافذ الناس تدخل منها.
وأضافت أن صفاء وزوجها محدش شاف منهم خطأ وكأنهم مش موجودين معانا في الشارع، هم ناس مسالمين وغلابة وكلنا حزنا عليهم صفاء في عز شبابها وراحت هي وأولادها هي يتيمة الام والأب ومعندهاش اخوات
وقال درويش أن الأسطوانات جاية من المصانع غير سليمة وفتحة الأنبوبة تالفة والفلاحين هنا بيضعوا عليها قماشة ويسيبوها وتسرب.