ربما اضطر الإنسان عقب انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة لأن يغفر لليونانيين القدامى خطأهم عندما ذهبوا إلى أن فائدة الرأس هي تبريد الدم فقط حيث كان أرسطو الذي توفي عام 322 قبل الميلاد يعتبر القلب هو العضو المحوري للحياة ورأى أن به "روح التغذية" و"روح الإدراك".
ولكن أرسطو كان هو الآخر يعتقد مثل أستاذه أفلاطون في وجود النفس الأبدية والإدراك الذي ينتشر في كل مكان كمبدأ فاعل.
كان الطريق طويلا بين اليونانيين القدامى وحتى اكتشاف الخلايا الرمادية الصغيرة التي استخدمتها أجاثا كريستي مع شخصية المفتش البلجيكي هيركيول بوارو في حل القضايا الجنائية بالغة التعقيد.
هذا هو الطريق الذي رسمه ماتياس إكولت في كتابه "قصة قصيرة عن المخ والروح" وهي قصة صغيرة للتاريخ الحضاري لأبحاث المخ والتي تتطرق بشكل ثانوي جدا لتوضيح كيفية عمل العلوم: بكثير من التكهنات وتجارب معقدة والعديد من الصدف والحوادث غير المتوقعة.
وفقا لهذه القصة فإن جالينوس الذي كان يعمل طبيبا في روما (ولد عام 129 وتوفي عام 199 م) كان يعتمد على تشريح الحيوانات (حيث كان تشريح الإنسان محرما آنذاك بشكل صارم) في تتبع تشابك الشرايين حتى وصولها للمخ وبذلك جعل المخ بمثابة "مقر التفكير والقدرة الشعورية" وكان يعتقد أن الأوامر تصدر من هناك إلى الكائن الحي.
وكان جالينوس يتخيل أن تدفق الدم ومعه روح الحياة كان يتم بشكل خطي وهو أحد التفسيرات الذي لم ينته إلا مع اكتشاف الدورة الدموية على يد العالم الإنجليزي وليام هارفي (ولد عام 1578 وتوفي عام 1657) في القرن السابع عشر.
ويستخدم إيكولت مواقف عابرة وقصيرة من الحياة البحثية للعلماء مطعمة بإشارات سريعة وتعريفية بعلماء تاريخ الأبحاث للحديث عن القفزات والطفرات والنقلات العلمية ولكن أيضا عن فترات الإحباط التي خاضتها البشرية بدءا من اكتشاف الأعصاب ووصولا إلى بحث الذكاء الاصطناعي.
من هذه الأحداث استخدام أستاذ علم التشريح الإيطالي لويجي جالفاني (ولد عام 1737 وتوفي عام 1798) سيقان الضفادع في ملاحقة التيارات الكهربية للبرهنة على أن الأعصاب تستجيب للكهرباء.
وكنتيجة لهذا الكشف أصبح من الممكن قياس وظيفة الجهاز العصبي ولم تعد هناك حاجة للاعتقاد في وجود روح مطلقة للحياة واضطرت الفلسفة وأبحاث المخ على إثر هذا الاكتشاف لإفساح الطريق أمام المادية العلمية والمنهج التجريبي.
وساعدت الواقعة المحزنة التي عاشها فينس جيج (ولد 1823 وتوفي عام 1860)، أحد رؤساء عمال بناء السكك الحديدية في الولايات المتحدة، الذي مر من رأسه قضيب حديدي في القرن التاسع عشر وأعطى الباحثين آنذاك إشارات على وظيفة الفص الجبهي كأداة رقابية تستطيع كبت النبضات.
وأصبح العلماء قادرون الآن أيضا على تصنيف أجزاء أخرى في المخ بدقة وفقا لوظائفها.
ثم استطاع عالم الأعصاب الألماني هانز بيرج (1941-1873) من خلال الرسم الكهربائي للدماغ وذلك للمرة الأولى في تاريخ البحث العلمي قياس نشاط المخ بل وتسجيله وذلك من خلال رسم منحنيات الدماغ على ورق الصور الفوتوغرافية.
ثم خطا الكيميائي الأمريكي بول كريستيان لوتربور (2007-1929) خطوة أخرى في أبحاث المخ ونشاطه من خلال تصوير المخ الحي أثناء عمله في صور ملونة وذلك من خلال التصوير بالرنين المغناطيسي الذي طوره هذا العالم وأراد من خلاله إلقاء الضوء على العلاقة بين العمليات الحيوية والإدراكية في المخ.
ولكن أحدث التقنيات البشرية نفسها لها حدود حسبما برهن إيكولت الذي قال إنه على الرغم من أن أشعة الرنين المغناطيسي يمكن أن تتيح للإنسان رؤية كيفية تزايد حجم منطقة الحُصين بمخ متدرب بريطاني على قيادة التاكسي خلال فترة التدريب بسبب عملية التعلم إلا أن أفضل هذه الصور وأجملها لا تزال حتى الآن غير قادرة على معرفة كيفية حدوث عملية التعلم نفسها وكيف يؤدي المخ "عمليات إدراكية أعلى".
وبذلك لم تفسَر حتى اليوم العلاقة بين المخ والروح ومعها لغز الإدراك.