"تمثل حياة وانجازات صلاح الدين الأيوبي واحدة من أعظم اللحظات في تاريخ الحروب الصليبية، إذ تظهره الأدبيات في أغلب الأحيان بصورة البطل الفاتح الذي أذاق أعداءه مرارة الهزيمة، وأجبرهم في نهاية الأمر على الاستسلام لإرادته.. أما إمعان النظر في واقع حياته فيكشف لنا أنه لم يكن مجرد فاتح، ولكنه كان رجلا صاول كثيرا أعداءا من بني جلدته ليفرض عليهم أخيرا الالتحاق به والجهاد تحت رايته، ومن هذه الزاوية نراه قائدا يجاهد في سبيل مثالياته، تجلت بطولته ليس فقط في انتصاراته وانما بالأنموذج الذي يقدمه، وهو أنموذج لإنسان تملكته الآمال والرؤى وأعجزه الزمن عن تحقيقها.
بهذا النص استهل أحد أشهر المستشرقين والمؤرخين البريطانيين، السير هاملتون كب عميد الاستعراب البريطاني، والعضو المؤسس لمجمع فؤاد الأول للغة العربية، والصديق الحميم لطه حسين ومحمد حسين هيكل وغيرهم من كبار المفكرين العرب، كتابه عن صلاح الدين، ذلك الكتاب الذي سيصدر قريبا عن دار رؤية للنشر والتوزيع بترجمة مختص أنفق القسم الأكبر من حياته بين البطل المسلم والمستشرق البريطاني، هو الدكتور ناصر عبد الرزاق الملا.
إن كتاب "حياة صلاح الدين" للمستشرق هاملتون كب، قطعة نادرة من البحث العلمي الأصيل والتفهم الغربي المنقطع النظير لشخصية عالمية، أصبحت كما يقول مؤرخ بريطاني آخر هو نورمان دانيال أكثر شهرة من كل ملوك التاريخ الأوربي، فلا ريتشارد قلب الأسد حصد عند غير الإنكليز من التكريم ما حصده صلاح الدين ولا لويس التاسع كسب إعجاب الأوربيين كما فعل صلاح الدين.
وهذا الكتاب في صدور ترجمته العربية في هذا التوقيت بالذات يمثل تصحيحا لبعض السفه والخلط الذي يحلو للبعض ترويجه بحق هذه الشخصية التاريخية الخالدة، إذ يستعذب البعض – ومنهم أسماء مرموقة إعلاميا للأسف- أن تخوض في التاريخ بصورة عبثية بعيدا عن التمحيص الحقيقي للمصادر، بينما يكون الإعداد الحقيقي للمؤرخ مهمة شاقة تتطلب جهدا وصبرا ووقتا طويلا، وباختصار شديد ((كلما زاد علم المرء في ميدان من الميادين كلما تردد كثيرا في إطلاق التصريحات الدعائية، والعكس هو الصحيح، كلما زاد الترويج وتضاعفت البهرجة الدعائية عندها يصعب أن تجد علما نافعا)).
لأجل ذلك تتضاعف الحاجة للعلم النافع الأصيل والدراسة الصارمة للنصوص والوعي الحقيقي بحركة التاريخ، وهو ما أبدع به المستشرق كب في عمله الخالد "حياة صلاح الدين".
وميزة عمل هذا المستشرق عن سواه ممن كتب عن صلاح الدين من غربيين وشرقيين على السواء أنه قدم نظرات أصيلة في ثلاثة ميادين: مصادر صلاح الدين، وسيرته، وشخصيته.
فبالنسبة للمصادر أصبحت طروحات المستشرق كب مدرسة في حد ذاتها عندما سعى ليفتتح ميدانا بحثيا جديدا قوامه نقل تقاليد دراسة ما يعرف بالنقد العالي للنصوص، والذي اشتهر في أوروبا في القرن التاسع عشر في نقد التوراة، إلى دراسة المصادر التاريخية الإسلامية.
وما يزال المستشرقون الاوربيون- بالرغم من النتاجات الوافرة التي قدموها- يقفون باحترام شديد عند الحدود التي رسمها المستشرق كب قبل أكثر من خمسين عاما.
أما بالنسبة للسيرة، فيجد المرء في هذا كتاب "حياة صلاح الدين"؛ أمثولة لاستيعاب السيرة الصلاحية، ووعيا يكاد يكون نادرا بقيمة كل رواية من رواياتها، ويزنها بميزان دقيق يعطي لكل عبارة ثقلها، فكما قال كب لطالبه المؤرخ صالح أحمد العلي وهو ينصحه: "لا تكتب جملة بخمس كلمات إذا كنت قادرا على كتاباتها بأربع"، ناهيك عن الهوامش التي هي أحيانا أكثر قيمة من المتن بما تتضمنه من تحليلات معمقة وأصيلة.
بينما فيما يخص شخصية صلاح الدين، فتتجلى عظمة كتاب المستشرق كب بأروع صورها، ولعله – دون مبالغة- أقرب من كتب عن صلاح الدين فهما لشخصه ولإنجازاته، وهنا نحيل غلى بحث نادر كتبه هذا المستشرق عنوانه "مآثر صلاح الدين" حلل فيه شخصية هذا القائد المسلم، وهو يعود لاستيعاب أفكاره الرئيسة في هذا الكتاب الذي نقدمه.
وخلاصة رأي كب بشخص صلاح الدين أن عظمته لا تتجلى فقط في النجاح بتحرير القدس ودحر الصليبيين، وإنما في المثاليات السامية التي كان يؤمن بها، وبقي، وهو في قمة السلطة، مؤمنا بها، فلم يكن للمال والنفوذ من تأثير ينتزع منه مبادئه، فبقي حتى النهاية يقاتل في نضال مهلك قوات أوروبا بمجملها في الحملة الصليبية الثالثة بقوة المبادئ والإيمان الفذ بالقضية.
ولقد أبدع كب- وهو المؤرخ الغربي- في وصف صلاح الدين، في اللحظات القاسية والحالكة، ليبرهن لنا أن البطولة لا تكون في الانتصار فقط وإنما البطولة في الثبات على المبادئ والصمود حتى النهاية.
وقد وقف المؤرخون والمستشرقون الكبار لتحية المستشرق كب على جهده اللامع هذا، وفي مقدمتهم ستيفن رنسيمان وجورج سكانلون وويلفر دمايدلنك ودونالد ريتشاردز.
وفي تقديمه يقول المترجم الدكتور ناصر عبد الرزاق الملا: هذا هو صلاح الدين وهذا هو المستشرق كب، وهي لحظة نادرة جمعت بين البطل المسلم والمؤرخ الصليبي فكان ثمرتها هذا الكتاب الرائع الذي سيبقى محطة بالغة الأهمية في سيرة صلاح الدين وفي الاستشراق البريطاني، وهو كتاب كفيل بإخراس المتقولين والمتزلفين بحق قمر سطع في سماء الإنسانية وسيبقى وإلى الأبد.