نظرت في الوعـــاء:
هتفت: "ويحكم.. دمي
هذا دمي.. فانتبهوا"
لم يــأبهوا!
وظلّت الأيدي تراوح الملاعق الصغيرة وظلت
الشفاه تلعق الدماء!
كلمات قالها
الشاعر الثائر المتمرد الذي جاء من الجنوب في صعيد مصر، باحثًا عن أسطورته المتمثلة
في "الشعر" ذاك الذي جعله يطرد كل ما يجول في خاطره من غضب وحنق على
الأوضاع السياسية في شكل أبيات ظل ولازال يرددها الثائرون في كل مكان.
إنه محمد أمل
فهيم محارب دنقل، الذي ولد عام 1940 في قرية "القلعة" مركز "فقط"
بمحافظة قنا جنوب مصر، حيث كان منذ ولدته لكل محطة في حياته حكاية بدأت من
اسمه الذي سمي به، الذي اختاره له والده
الذي حصل على "الإجازة العلمية" في عاك مولده، ما جعله يقوم بتسميته
"أمل"؛ تيمنا بالنجاح الذي حققه.
ظهور
الموهبة
كان لامتلاك
والده عالم الأزهر مكتبة ضخمة تضم كتب الفقه والشريعة والتفسير وذخائر التراث
العربي، أن تساعده في تشكيل ثقافته وأفكاره التي كانت ذات طابع قومي نابعًا من حبه
للرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر.
بدأ يكتب
الشعر العمودي في فترة مبكرة من عمره، حيث اتسمت قصائده بالابتعاد عن التعقيد، إذ كتب
بطين الحياةِ المجبول من أعماقِ النفسِ البشرية بخيباتها وأفراحها المختلسة، ليخلق
حالة عشق فريدة من نوعها بينه وبين قراءه؛ نظرًا لأنه استخدام اللغة الحية القريبة
من الناس، والاهتمام بالصور الكلية الممتدة، وعدم الاقتصار على الصور الجزئية من
تشبيه واستعارة وكناية، والتحرر من وحدة البحر ووحدة القافية، والاكتفاء بوحدة
التفعيلة دون ارتباط بعدد معين، الاعتماد على الموسيقى الداخلية.
العمل
بديلًا عن الدراسة
ازداد
"دنقل" تعلقه بالشعر بالتزامن مع التحاقه بكلية "الآداب" في
القاهرة، إلاّ أنه انقطع عن متابعة الدراسة منذ العام الأول؛ ليعمل موظفاً بمحكمة "قنا"
وجمارك السويس والإسكندرية، ثم موظفاً بمنظمة "التضامن الأفرو آسيوي".
دائمًا ما كان
يفر الشاعر الجنوبي من الوظيفة، إلى ملاذه الآمن "الشعر"، الذي كان يصبه
في اتجاهه القومي وقصائده السياسية الرافضة.
لكن أهمية شعر دنقل تكمن في خروجها على
الميثولوجيا اليونانية والغربية السائدة في شعر الخمسينات، وفي استيحاء رموز
التراث العربي تأكيداً لهويته القومية وسعياً إلى تثوير القصيدة.
يجعلك تبكي لأجله
حين ترى "مقتل القمر"، فقد أطلق العنان لخياله ليرسم لك مشهدًا متكاملًا
عن هذه القصيدة، ثم يضفي على المشهد جمالًا خاصًا برغم صعوبته في "الموت في
لوحات".
الثائر
يتمرد على أفكاره
كعادة الثائر
في تمرده سُرعان ما تمرد على فكره القومي إثر اصطدام أبناء جيله
بـ"النكسة"، فأظهر إحساسًا مريرًا نابعًا من إحساسه بثقل الهزيمة التي
تعرضت لها بلاده آنذاك، في "البكاء على يدي زرقاء اليمامة".
أيتها العرَّافة المقدسة..
ماذا تفيد الكلمات البائسة؟
قلتِ لهم ما قلتِ عن قوافل الغبار..
فاتهموا عينيكِ، يا زرقاء، بالبوار!
قلتِ لهم ما قلتِ عن مسيرة الأشجارْ..
فاستضحكوا من وهمك الثرثار!
وحين فوجئوا بحدِّ السيف: قايضوا بنا..
والتمسوا النجاةَ والفرارْ!
لاتصالح
عاش "أمل دنقل" نصر أكتوبر
وكانت فرحته شديدة به، فقد رأي في النصر تعويضا وردًا للاعتبار عن كل سنوات
الانكسار والهوان، ورأى في رفع العلم المصري فوق سيناء بمثابة "درس لكل من
تسول له نفسه المساس بمصر وأرضها.
كان لكل هذا أنه يجعله لم يصدق رغبة
السادات التي عبّر عنها في خطابه في مجلس الشعب وقتها، وقال فيه "إنني مستعد
أن أذهب إلى آخر الأرض، وسوف تدهش إسرائيل حين تسمعني أقول إنني مستعد أن أذهب إلى
الكنيست كي أناقشهم".
لم يكن يصعب على "دنقل" فهم الرسالة
وشعر بحدسه أن السادات ذاهب للصلح مع إسرائيل فأطلق رائعته "لا تصالح"
والتي أصبحت لسان حال المصريين الرافضين للصلح والتطبيع مع إسرائيل.
وصل الأمر بين السادات ودنقل إلى حد من
الصدام الواضح؛ نظرًا لأن أشعاره باتت تترد في التظاهرات التي كانت تُنظم ضد
السادات وضد قراره المتعلق بالتطبيع وقتذاك.
لا تصالح
ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى.
ثورة الحب
ككل
جوانب حياته المليئة بالشجن والثورة، كان للجانب العاطفي في حياته نصيبًا من كل
هذه الشجون والأحزان، ظهر ذلك جليًا في دفئ رسائله التي اعتاد إرسالها لزوجته
الصحفية عبلة الرويني.
لو لم أكن أحبك كثيرا لما تحملت حساسيتك لحظة واحدة.. تقولين دائما عني
ما أدهش كثيرا عند سماعه، أحيانا أنا ماكر، وأحيانا ذكي، رغم أنني لا أحتاج إلى
المكر أو الذكاء في التعامل معك؛ لأن الحب وسادة في غرفة مقفلة أستريح فيها على
سجيتي، ربما كنت محتاجا إلى استخدام المهارات الصغيرة معك في بداية العلاقة؛ لأنني
كنت أريد أن أفهمك بحيث لا أفقدك، أما الآن فإنني أحب الاطمئنان الذي يملأ روحي
عندما أحس بأن الحوار بيننا ينبسط ويمتد ويتشعب كاللبلاب الأخضر على سقيفة من
الهدوء.
السرطان ينهي ثورة التمرد
في
المحطة الأخيرة من حياة الباكي على يدي زرقاء اليمامة، أصيب بالسرطان وعانى منه
لمدة ثلاث سنوات، وكتب في غرفة علاجه بمعهد الأورام مجموعته أوراق_الغرفة_8 وعبّرت
قصيدته "السرير" عن آخر معاناته مع المرض، وعُدت هذه القصائد
كـ"رثاء لنفسه".
في
21 مايو عام 1983 لفظ أمل دنقل أنفاسه الأخيرة، وكان برفقته الدكتور جابر عصفور
وزير الثقافة السابق والشاعر الراحل عبدالرحمن الأبنودي، ودفن بمسقط رأسه في قرية
القلعة بمركز قفط قنا جنوب مصر.
كل هذا البياض يذكرني بالكفن..!
فلماذا إذا متُّ..
يأتي المعزون متشحين ..
بشارات لون الحداد؟
هل لأن السواد ..
هو لونُ النجاةِ من الموتِ،
لونُ التميمةِ ضد .. الزمنْ.