هنا صعيد مصر وبدوها، إذ تولد العادات والتقاليد والقيم والأخلاق الحميدة، هى الميراث الثقافى الوحيد الذى يتساوى فيه الغنى والفقير، الجاهل والمتعلم في دواوين الحكم والعائلات.. المجالس العرفية أحد أهم تلك الموروثات فهي "كونجرس الصعايدة"، و"برلمان البدو"، و"قعدة العرب" لسكان الصحراء، وما يصدر عنها نافذ التطبيق،لا يحتمل اللهو أو الاحتمال، وغالبًا ما تمثل "دستور حياة" لهؤلاء، يحفظ لهم أموالهم ودماءهم وأعراضهم.
وتختلف طبيعة المجالس العرفية وفقًا لاختلاف الطبيعة والموروثات في كل منطقة عن الأخرى، كما تعد تلك المجالس غلقًا لباب الشيطان في كثير من الأوقات، ويعاقب بشدة تصل للطرد من الموطن كل من خالف أو رفض أو نكث حكمًا صادرًا عن المجلس.. التفاصيل في بطن السطور التالية..
بالأرقام.. أول وثيقة من "حكماء قنا" لتغريم المعتدي والقاتل
10 آلاف جنيه عقوبة البصق على الوجه.. و700 ألف للقتل العمد.. و600 ألف لقطع اليدين
قنا - إسلام نبيل
بعد أن زادت الخصومات والخلافات الثأرية بين العديد من العائلات في مختلف مدن ومراكز محافظة قنا، أقر عدد من الشيوخ وحكماء مركز قوص، جنوب المحافظة، وثيقة غرامات مالية لردع الخلافات الثأرية، ونبذ الثأر بين الأسر والعائلات، فضلًا عن محاولتهم تقديمها لأجهزة الأمن بالمحافظة.
يقول الشيخ عبدالباسط محمد إبراهيم، وكيل مديريتي الأوقاف بمحافظة قنا والبحر الأحمر الأسبق، عضو لجنة الحكماء، إن الوثيقة حددت غرامات مالية لكل اعتداء، بدءًا من صفعة القلم علي الوجه، وصولًا للقتل العمد.
وأوضح وكيل الأوقاف الأسبق، أن البصق علي الوجه، والسب العلنى، وسحب الحذاء، وكسر الرجل، وكسر الذراع، وكسر الترقوة، والبطح، وكسر الضلع، وكسر الفخذ، جميعها تم تحديد غرامتها بـ 10 آلاف جنيه، والقتل العمد تم تحديد غرامته بـ 700 ألف جنيه، يدفعها القاتل "دية" لأهل القتيل.
ولفت "إبراهيم" في سياق تصريحاته إلى أن الطعن فى الأمعاء أو القلب، أو فقء العين، حددت اللجنة لها 200 ألف جنيه، وقطع كلا الأذنين، أو بتر الرجل، أو اليد، فيغرّم مرتكبها بمبلغ 300 ألف جنيه.
وتابع أن قطع الرجلين كاملتين، أو فقء العينين كاملتين، أو فقد النطق، أو السمع، أو العقل، أو قطع اليدين كاملتين، يتوجب تغريم الجاني 600 ألف جنيه، بينما تصل غرامة القتل العمد إلى 700 ألف جنيه إذا وافق ولي الدم، مشيرًا إلى أن اللجنة تضم العديد من المشايخ وحكماء مركز قوص، وعددًا من كبار العائلات والقبائل، وذلك من أجل حقن الدماء ولم الشمل، لافتًا إلي أن تلك الوثيقة سوف يتم تقديمها خلال الفترة المقبلة إلى الأجهزة الأمنية بالمحافظة، وذلك من أجل المساعدة في حل الخلافات الثأرية قبل وقوعها.
"التغريب" و"الدية" و"الكفن".. قانون عقوبات المجالس العرفية ببني سويف
كتب - محمد أحمد
تقوم لجان المجالس العرفية بدور أمني وقضائي وشعبي بمحافظة بني سويف، إذ تعتبر بمثابة محاكم مدنية موازية، وتلجأ إليها بعض العائلات حقنًا للدماء، أو خوفًا من صدور أحكام قضائية ضد أبنائهم، والتي تصل أحيانًا إلى الأشغال الشاقة المؤبدة أو الإعدام.
يقول محمد نجيب، عمدة قرية براوة، عضو المجلس العرفي ببني سويف: "يتكون المجلس العرفى من بعض الشخصيات العامة، مثل أعضاء المجالس النيابية، والمجالس الشعبية المحلية، ورجال الدين، ويشترط في اختيارهم أن يكونوا ممن يتمتعون بشعبية داخل وخارج قرى ومراكز المحافظة".
وأشار نجيب إلى أن هناك عدة شروط يجب توافرها في عضو المجلس العرفى، منها أن يكون منتسبًا لكبار العائلات، ويتمتع بسمعة حسنة، ولم تسبق إدانته أو أحد أفراد عائلته في أي أحكام قضائية، وأن يمتاز بالحكمة التي تمكنه من حل المشكلات، وأن يُعرف عنه الحزم والشدة.
وأضاف سامي سعد الدين، أحد أعضاء المجلس العرفي، أن الجلسة العرفية تشهد حضور عدد كبير من أهالي المنطقة التي يعقد فيها المجلس، وتتم دعوتهم من طرفى النزاع، ليكونوا شهودًا على الأحكام الصادرة، وفى البداية يطلب القائمون على إدارة الجلسة من الحاضرين الهدوء التام، ليبدأ كل من الطرفين في شرح أسباب الخلاف.
واستفاض: "تبدأ الجلسة بكتابة أسماء المتنازعين، يوقع بعدها المتخاصمون على عدة إيصالات أمانة، محدد عددها مسبقًا، مساوية لعدد أفراد النزاع، وينادى المحكمون أسماء المتنازعين وإثبات حضوهم أمام الجالسين وأمام المحكمين، ثم تسمع هيئة المحكمين رأى أطراف النزاع، كل شخص على حدة بتوقيتات متساوية، وفى النهاية يوقع المحكمون على محضر الجلسة وما تم الاتفاق عليه، سواء بتوقيع غرامات أو الصلح أو ما شابه ذلك".
واستطرد عضو اللجنة أنه "قد يحدث أحيانًا في أثناء الجلسة شد وجذب وتتعالى الأصوات، وهنا يتدخل كبير الجلسة الذي يلزم الجميع بالهدوء، وفي حال خرج أحد طرفى النزاع عن الآداب المتعارف عليها توقع عليه عقوبة مالية تتراوح قيمتها بين 10 آلاف جنيه و50 ألف جنيه، ويشترط فيها أن تدفع لأعضاء المجلس في نفس وقت الحكم بها".
وقال على بدر، وكيل لجنة حقوق الإنسان بمجلس النواب، عضو المجلس العرفي، إنه بعد الاستماع إلى طرفى النزاع، يدخل أعضاء المجلس العرفي في جلسة مغلقة لا يحضرها أحد غيرهم، ليبدأوا في مناقشة وتحليل ما استمعوا إليه، وفى بعض الأحيان، خاصة في النزاع على حدود الأراضى، يذهب أعضاء المجلس للمعاينة على الطبيعة، تمهيدًا لإصدار حكمهم.
وتتنوع الأحكام، التي قد يصل بعضها إلى "التغريب"، وهو إلزام الطرف المحكوم عليه بمغادرة القرية أو المدينة التي يسكن بها لمدة لا تقل عن 6 أشهر، ولا تزيد على عام، ويستخدم هذا الحكم غالبًا في حل النزاع الذي ينشب بسبب قصص الحب، ويشترط في الجلسة العرفية التي تحكم في هذا النوع من الخصومات ألا يحضرها أحد سوى أعضاء المجلس، وطرفي النزاع، حفاظًا على الأسرار الأسرية، وهناك عقوبات "تقديم الكفن والدية"، التى يلجأ إليها المجلس فى حالات الثأر، لوأد أى خلاف ثأرى فى مهده.
"السالف".. الحاكم الناهي في مجلس "البشارية" بأسوان
أسوان - وفاء عبدالرازق
في أسوان تنتشر المجالس العرفية، ويطلق عليها "السالف"، ويعول عليها في إنهاء الخلافات، وحقن الدماء، وتهدئة المشكلات قبل وصولها لأقسام الشرطة وساحات المحاكم.
يقول الشيخ نصر كرار، شيخ مشايخ قبائل البشارية بأسوان، إن "السالف" هو عبارة عن أحكام عرفية ثابتة، ويتكون من مجلس مشايخ القبائل البشارية، وتنظر فيه الخصومات بين أفراد القبيلة، سواء المشاكل العادية أو الخلافات بين الشباب، من سب أو قذف أو خلاف في المراعي، كأن يختلط علي شخص ملكية ناقة شبيهة لناقة شخص آخر، فيلجأ إلي "السالف" لبحث الخصومة عن طريق الأحكام العرفية.
وأضاف الشيخ كرار أن خصومات الأخذ بالثأر يكون لها وضع آخر في مجلس "السالف"، وفي عرف قبائل البشارية، ويخير ولي الدم إما بأخذ الثأر أو العفو عن طريق المسامحة، ولا يتم فيها ذل الطرف الآخر بتقديم الكفن أو أي شيء آخر، كما في القبائل الأخري.
وأوضح الشخ كرار أن هناك أيضا "البشعة"، وهي عقوبة تخص الشرف فقط، وتتم عن طريق دفن فأس في النار حتي يصبح لونها أحمر كالجمر، ثم توضع على لسان المتهم، فيلعقها، فإن كان صادقًا فلا تضره شيئًا، وإن كان كاذبًا فهي تلتصق بلسانه، مشيرًا إلي أن عقوبة البشعة لم تنفذ في القبيلة منذ 30 سنة مضت.
وتابع أن القبيلة تلجأ أيضًا لحكم الشرع من رجال الدين، وأشراف قبيلة البشارية من المختصين بأحكام الشرع، وذلك في خصومات الميراث والطلاق والزواج، وفي خصومات الدم، أي الخصومات التي يسيل فيها الدم، وهي الإصابات التي تسبب عاهات، فالقبيلة تأخذ في حكمها بشرع الله.
دمه مهدور.. "التشميس" آخر المحاذير في سيناء
جنوب سيناء - عصام صبحى
يتمير المجتمع البدوي بتفرد عاداته وتقاليده، وكذلك طبيعة العقوبات والأحكام التي يتبناها للحفاظ على قوامه ونسيجه، ويعد "التشميس" أبرزها، وهي عقوبة إهدار الدم، ومن يهدر دمه- حسب قانون القبيلة- لا دية له، ولا تطالب قبيتله بها، لأنها هى من أهدرت دمه وأباحته للجميع، بسبب سوء سلوكه وخروجه من حماية القبيلة.
فى عالم مغلق تدير القبيلة شؤونها، ويحكمها العرف، فيصبح الخروج من "جنة القبيلة" بمثابة حكم بالإعدام مع إيقاف التنفيذ، أو إهدار الدم من أى شخص من القبائل الأخرى.
"التشميس" هو عقوبة تقررها القبيلة، بعد أن يفيض بها الكيل من "المتشمس"، فيصبح دمه مهدرًا، بعد أن ترفع القبيلة يدها عنه، ولا يجوز الأخذ بالثأر لهم أو حمايتهم من أى مضايقات، فضلًا عن مقاطعة "المشمسين"، وعدم المشاركة فى دفع أى غرامات مادية قد يحكم بها عليهم بعد قرار "التشميس".
يقول الشيخ محمد أبوسالم، شيخ مشايخ قبيلة بنى واصل بجنوب سيناء، إن الأحكام العرفية في مجتمع البدو صعبة جدًا، و"التشميس" معناه أن تتبرأ القبيلة من أحد أبنائها لافتعاله العديد من المشاكل، وإثارته الفتنة، وارتكابه عدة جرائم، وهنا لابد من "تشميسه"، لأنه لا يرجع عن جرائمه، وفشل محاولات تقويمه، فترفع القبيلة يدها عنه.
وأضاف الشيخ أبوسالم أن القانون العرفى لأبناء البدو ينص على سبب واحد لـ"التشميس"، هو الخروج عن التقاليد، وهي لا تحصى، لكنها تبقى عالقة فى عقول أبناء البدو، وعن طريقة "التشميس" يقول شيخ بني واصل إنه يتم عن طريق توقيع 9 من أبناء القبيلة على "تشميس" الشخص الخارج على عادات وتقاليد القبيلة، والتوقيع يشمل عمومة القبيلة، يعنى التوقيع من الأب والأم والأخ والعم والخال والخالة وابن العم وابن الخال، وأحد شباب القبيلة من أى ربع.
وعقب التوقيع على وثيقة "التشميس" يتم تصوير هذه الوثيقة وتوزيعها على المقاعد والمجالس البدوية، ومشايخ القبائل الأخرى، وأقسام الشرطة بأن هذا الشخص تم "تشميسه".
وفي السياق ذاته، أوضح الشيخ فريج سالم، شيخ قبيلة الحويطات بطور سيناء، أنه قبل "التشميس" تقوم قبيلة الشخص بتسديد ما عليه من أموال أو قضايا للغير، ورد كل ما سلبه من الغير، ليصبح نظيفًا تمامًا مما عليه، لافتًا إلى أنه لا يجوز "التشميس" قبل معالجة الجرائم التى ارتكبها الشخص، قائلًا: "يعنى بالعربي قبيلته تحاسبه على مصائبه التى ارتكبها، وبعد ذلك يجوز تشميسه".
وأكد الشيخ سالم أن عقوبة "التشميس" عادلة، ولا مبالغة فيها أبدًا، مشيرًا إلى أن القانون العرفى يختلف عن القانون العادى فى أنه ليست به عقوبات سالبة للحرية كالسجن، ولكن هناك عقوبات مادية، بأن تفرض غرامات، وتكون مبالغ مالية كبيرة، على مرتكب "الجرم"، وتكون قبيلته كلها مسؤولة عن سداد هذا المبلغ، وبالطبع يكون هناك شخص خارج على السيطرة، أيضًا أن تكون عشيرته لا تقدر على تحمل الأحكام المادية التى يحكم بها عليه نتيجة أفعاله، لذلك يجب "تشميس" هذا الشخص، لأنه يجلب لقبيلته العار.
نقلا عن العدد الورقي "لأهل مصر"