أعادت دار "الهلال" المصرية طباعة ونشر مذكرات الفنان والمسرحي الكبير نجيب الريحاني، هذا العام، بعدما كانت الطبعة الأولى من هذه المذكرات قد صدرت في شهر يونيو من عام 1959 عن الدار ذاتها.
وصدرت الطبعة الثانية في 166 صفحة من القطع الكبير، وبالمقدمة ذاتها التي كان كتبها بديع خيري، صديق الريحاني المقرّب، فنياً وأدبياً وشخصياً، والذي قال عنه: "زميلي القديم بديع خيري، إذا افترقنا حلّ البؤس والشقاء بكلينا، وإذا اجتمعنا كان الخير في ركابنا". فضلاً عن الافتتاحية التي كان كتبها صاحب المذكرات نفسه وقال فيها بلغته الرشيقة ذاتها التي عرفه بها المشاهد، والمفعمة بالسخرية النبيلة و"الدم الخفيف": لعلّ بعض من تحدثت عنهنّ قد يسوءهنّ أن أكشف حقيقة رابطتهن الأولى بالمسرح بعد أن أصبحن في سمائه كواكب لامعة".
ويضيف عنهنّ: "تحدّثن إلى الصحف كثيراً، ودبّجن المقالات كثيراً.. وكيف عشقن الفن لذاته.. وكيف.. وكيف مما لست أذكره". ويتساءل ساخراً: "ولكن هل ذكرت -الواحدة منهنّ- في أحاديثها ولو من باب تقرير الواقع و(بلاش مجاملة حتّى) شيئاً عن كيف تقف على المسرح وكيف تنطق أبجديته؟". منتهياً بالقول: "وكأنه من العار عليها إذا اعترفت بأنها كانت ممثلة في فرقة الريحاني.. وبلاش مبتدئات يا سيدي!".
ويسرد الريحاني في مذكراته، أحداثاً من حياته والمفارقات التي ألمت بها، عبر لغته ذاتها التي كان يتحدث بها إلى الجمهور في المسرح أو حتى في السينما. إذ يشعر القارئ أنه يسمع صوت الريحاني وهو يقرأ مذكراته التي كتبها على طريقته في التكلّم، وتجنّب فيها الموحش من الكلام والغريب من الألفاظ، وقدّمها بأكثر الأشكال التعبيرية قرباً من القارئ ومن الحياة، في آن واحد، معاً.
العرّافة تتنبأ له بحادث سيارة فيمتنع نهائياً عن اقتنائها
ويكشف الريحاني بعضاً من أسرار شخصيته وغرائبها، من مثل رفضه اقتناء سيارة. ويقول "لعل أحداً يتساءل عن السر في عدم اقتنائي السيارة؟". ويؤكد أن السبب في امتناعه عن امتلاك سيارة، هو أن "عرّافةً مدهشة" كانت قد "تنبّأت" له بأنه سيتعرض لحادث اصطدام في سيارة سيكون هو واحداً من راكبيها. وعلى الرغم من أن العرّافة قد "تنبّأت" له أيضاً أن "العواقب" ستكون "سليمة" جرّاء ذلك الاصطدام، إلا أنه يؤكد أن توقّع العرّافة دفعه إلى الامتناع نهائياً عن اقتناء سيارة.
ويقول الريحاني بلغته المحببة: "كنتُ إذا دُعيت لركوب إحدى سيارات الغير أو حتى سيارة تاكسي، أتوسّل إلى السائق بكل عزيز لديه أن يرحم شباب العبد لله وأن يسير على أقل من "من مهله.. لأني مش مستعجل أبداً". ويضيف: "ومش مستعجل، هذه، أقولها دائماً كلما ركبت سيارة، حتى لو كان باقي على القطار الذي سأسافر فيه دقيقة واحدة!". منتهياً إلى القول: "أفضّل دائماً ركوب عربات الخيل، لا رفقاً بالعربجية، بل حرصاً على حياتي الغالية! والحنطور فوقك يا أتومبيل!".
ويظهر في مذكرات الريحاني أنه كان ينصت لما تقوله له العرّافات أو قارئات الكف. ففي مكان آخر من الكتاب يقول إن "قارئة الكف" تنبأت له بأنه "سيلعب بالفلوس لعب" ويسرد حادثة بخصوصها. كما إنه يثني أكثر من مرة على "صدق" نبوءات العرافات ويقول إنها كانت صحيحة و"بحذافيرها"، على حد تعبيره، إلى درجة قوله عنها إنها "باحت" له بأشياء "سرّية" في حياته الخاصة.
رحل وفي مقتنياته المصحف وألفية ابن مالك وكتاب في تفسير القرآن.
ويظهر في مذكرات الريحاني ولعه الشديد باللغة العربية، حيث كان يلجأ إلى عضو في مجمع اللغة العربية، فقط ليسأله عن دقة كلمة دون أخرى. وهو أمرٌ تم الكشف عنه في تقرير نشرته "الأهرام العربي" المصرية بتاريخ الخامس من شهر سبتمبر عام 2016، عندما أكدت في تحقيق لها عن وفاة الريحاني، أنه وبعد ساعات من إعلان رحيله، دخل محرّر "مجلة آخر ساعة، شقة الريحاني بعمارة الإيموبليا" وسجّل بخط يده قائمة مقتنياته التي تركها وكان من جملتها أنه وجد "مصحفاً" وكتاب "حسن البيان في تفسير مفردات القرآن" وكذلك "ألفية ابن مالك". فضلا عن صورة للقديسة سانت تيريزا، ومقتنيات مختلفة أخرى كمسرحيات شكسبير ومذكرات رئيس وزراء بريطانيا الشهير ونستون تشرشل، باللغة الفرنسية.
ولد نجيب الريحاني عام 1889 في القاهرة، لأب من أصل عراقي كلداني. وشهدت حياته صعوداً وهبوطاً وعذابات ومآسي، بسبب عشقه للفن وانشغاله به. وهو أمر ذكره في مذكراته عندما سئل عن سبب نسيانه لنقود يكون قد وضعها في مكان ثم نسيها كلية. فيقول إن السبب كان في انشغال باله الدائم بالمسرح والفن.
وتوفي الريحاني في الثامن من يونيو عام 1949، وشيّع في اليوم التالي لإعلان وفاته بحضور مندوب عن الملك فاروق، وأقيمت الصلاة عليه في الكنيسة، ووري الثرى في مقابر السريان الكاثوليك. وبحسب تقرير "الأهرام" الذي سبقت الإشارة إليه، فإن جنازة نجيب الريحاني كانت ثاني أضخم جنازة، في مصر، بعد جنازة سعد زغلول.