استعرض مرصد الأزهر الشريف، من خلال وحدة الرصد الناطقة باللغة الفرنسية، عمّا إذا كانت الحربُ بسوريا والعراق ستنتهي بمجرد دَحْرِ التنظيم الداعشي أم لا؟
وقال المرصد في تقريره الصادر تحت عنوان " هَلْ تُعَدُّ نهايةُ "داعش" نهايةً للحربِ بسوريا والعراق؟": إنَّ ما تشهده الساحتان العراقية والسورية من مستجدات تؤشّر بقربِ تنظيم "داعش" ـ في شكل دويلته المؤسسية بما تضمّه من أجهزةٍ إدارية وإعلامية وشرعية وحربية ـ من نهايتِهِ، ومع اقتراب اللحظة التي ينتظرها العالم الذي حرَّك جيوشَه لقتلِ هذا التنظيم والقضاءِ عليه بإعلانِ نهايتِهِ، يجبُ علينا كي نجيب على هذا التساؤل أن نعودَ إلى الأسبابِ الحقيقية التي وقفت وراء اشتعال تلك الحرب الضروس التي لا زالت تفتك بشعبي هذين البلدين وتحرق الأخضر واليابس بهما، فنشأة تنظيم "داعش" تعود إلى فترة الاحتلال الأميركي للعراق حيث عملت الجماعات الجهادية المسلحة على مقاومة الغزو الأمريكي للعراق الذي بدأ عام 2003 لإسقاط نظام صدام حسين والذي استمر حتى عام 2011، الأمر الذي جعل من الأراضي العراقية بيئةً خصبة لاحتضان المجاهدين من أهل البلد ومن المجاهدين المهاجرين من الغرب والذين يبحثون عن إقامة تلك الفريضة من أجل إقامة دولة الخلافة.
وأضاف المرصد: دفَعَ طولُ فترةِ المقاومةِ الفرقَ المجاهدةَ إلى تشكيلِ مجموعاتٍ غاية في التنظيم ومتفوقة من حيث التدريب، كما أنها كانت تتحصل على الدعم المالي الكبير سواءً من جانب أفرع هذه التنظيمات بالخارج كتنظيم "القاعدة" أو من بعض الدول المجاورة التي عارضت التدخل الأمريكي لإسقاط نظام صدام حسين في العراق.
وعلى الجانب الشعبي، لاقت تلك المقاومةُ الجهادية للغزو استحسانَ أبناءِ الطوائفِ الدينيةِ المختلفةِ في العراق حتى إن الكثير من المواطنين انضموا للقتال في صفوف المقاومة يحركهم الدافع الوطني بغضّ النظر عن أيدلوجية تلك التنظيمات التي أصبحوا جزءًا منها. وخلال تلك الفترة التي استمرت ثمان سنوات من مقاومة الغزو، أخذت الطائفية بإلقاء ظلالها على المجتمع العراقي، وهو الأمر الذي أسهم بشكلٍ كبيرٍ في خدمة مصالح الاحتلال، وخاصّةً أن تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات طائفية كان خيارًا مطروحًا بشكلٍ دائم؛ فكلٌّ من السنة والشيعة والأكراد يطالب بدولةٍ مستقلة.
دفع هذا الأمرُ الجماعاتِ السنيةَ المتطرفة -وخاصّةً أنها غير ممثلة للطائفة السنية بشكلٍ رسمي- إلى استباق الأمور، وإعلان تأسيس دولةٍ سنية تحت اسم الدولة الإسلامية في العراق عام 2006 والاستمرار في مقاومة الاحتلال وهو ما لم يُثِر انتباهَ الشعب العراقي.
وعندما أعلنت الولايات المتحدة سحْب قواتها من العراق عام 2011، كانت الحكومة العراقية يرأسها نوري المالكي التابع للطائفة الشيعية التي يُكفّرها مجاهدو تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، وهو ما دفع التنظيمَ إلى الإسراع في إعلان دولةِ خلافةٍ ذاتِ مؤسسات تستطيع أن تَحلّ مَحلّ مؤسساتِ الدولة العراقية الكافرة من وجهة نظره، والبدء في تجنيد المقاتلين للدفاع عن هذه الدولة التي لا تعترف سوى بنفسها وتستمد مشروعيتها من الآيات القرآنية والأحاديث بَعدَ تأويلها بما يَصبّ في صالح مشروعها.
وعلى الجانب السوري المجاور، أخذت الأوضاع تتطور بعد اندلاع الثورة بشكلٍ متسارع وسرعان ما تحولت المطالبات بإسقاط النظام إلى حربٍ أهليه مع رفض بشار الأسد تخلّيَه عن الحكم ووصْفه المعارضين بالمتمردين وإعلان الحرب عليهم؛ ممّا سمَح للنزاع بأخذ الصبغة الطائفية ما بين طائفة سنية تسعى لإسقاط الحكم وطائفة عَلَويّة تمسك بزمام مراكز القوى في الدولة وتعلم أن تخليَها عن الحكم يعني إبادتها.
سمح هذا النزاع على السلطة بخلق بيئةِ صراعٍ طائفي تُشبه تلك التي عمّت قبل قليلٍ دولةَ العراق المجاورة، حيث ستؤدي تلك البيئة إلى نشاط الجماعات السنية المتطرفة وتحولها إلى المشروع الإسلامي بإنشاء دولة خلافة بها تستعدى الطائفة العلوية.
بعد إعلان مجلس شورى المجاهدين الذي كان يضم تنظيم القاعدة بالإضافة إلى العديد من التنظيمات الجهادية الأخرى حل نفسه لصالح تنظيم دولة العراق الإسلامية عام 2006 مرورًا بأبي مصعب الزرقاوي ثم أبي حمزة المهاجر ثم أبي عمر البغدادي أُمراءَ للمجلس، واختير الأخير أميرًا لتنظيم دولة العراق الإسلامية وخَلَفَهُ أخوه أبو بكر البغدادي الذي أعلن نفسه خليفةً للمسلمين في العراق، لتقوم جبهة النصرة التي كانت تقاوم نظام بشار الأسد الذي يقود الحرب الأهلية في سوريا بعد ذلك بمبايعة "البغدادي"، ويقوم الأخير بتغيير اسم التنظيم إلى الدولة الإسلامية في العراق والشام، والسيطرة على مناطقَ شاسعةٍ في البلدين؛ ممّا دفع التنظيم إلى التوسع أيضًا في التسمية وإطلاقها على العموم لتصبح في النهاية الدولة الإسلامية وتعلن بذلك الجهاد في العالم أجمع بهدف إقامة الخلافة الإسلامية وتمهيد الأرض لملحمة آخر الزمان حيث سيظهر المهدي المنتظر وينزل المسيح ليقود المعركة.
الدول الكبرى وتوازنات القوى:
وجدت القوى الكبرى في العالم نفسها في موقفٍ لا تُحسد عليه حيث اختلت، وتأثر العالم العربي بشكلٍ كبير، فاختلت التوازنات التي بنى عليها الغربُ سياساتِه الاقتصاديةَ والأمنية ولاحت في الأفق مشكلاتٌ تستدعى إيجادَ حلولٍ لها؛ كمشكلة اللاجئين والتسليح والنفط وتذبذب سياسات بعض الدول في المنطقة كمصر وتونس، الأمر الذي دعا تلك القوى الكبرى إلى تشكيلِ تحالفٍ دولي تقوده الولايات المتحدة يعمل على السيطرة على الأوضاع ومراعاة تلك المصالح وكذلك مقاومة تنظيم "داعش" دون إعادة تجربة التدخل على الأرض على غِرارِ الغزو الأمريكي للعراق.
أثار هذا التحالفُ حفيظةَ الجانب الروسي الذي لا يريد أن يخسر بشار الأسد أهم الحلفاء في المنطقة حيث إن النظام السوري يعتمد التسليح الروسي بنسبة 100%، وبدخول روسيا إلى معركة التوازنات تلك، استطاعت إعادة بشار الأسد بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من السقوط إلى طاولة المفاوضات كأحد الأطراف التي لا يمكن إغفالها.
ومن جانبه، بدأ تنظيم "داعش" في استغلال هذه الأوضاع المتوترة بين القوى العظمى وعَمِلَ على تأجيجِ مشاعر المسلمين السنة وتحفيزهم على الانضمام إلى التنظيم لتزداد أعداد المقاتلين تدريجيًّا وتتسع بشكلٍ متسارعٍ المساحاتُ التي تقعُ تحت سطوتِهِم، علمًا بأن التنظيم يرفض الاعتراف بأيِّ حدودٍ دوليّةٍ أو أيِّ معاهداتٍ مُلْزِمَةٍ للدولِ باعتبارِها طواغيتَ من صُنْع البشر. تعمل آلةٌ إعلامية فعالة، تابعة للتنظيم ويقوم عليها أعضاءٌ من الغربيين المتخصصين، على نشْر أفكاره وحققت هذه الآلة ما يمكن وصفه بالمعجزة الإعلامية حتى بات اسم "داعش" الأكثرَ رواجًا في العالم، وصارت إصدارته العقائدية والدعائية متوفرة بغزارة على شبكة الإنترنت، كما تمّ إنشاءُ لجانٍ إلكترونية لتلقي طلبات المبايعة والانضمام للتنظيم من مختلِف أنحاء العالم؛ ومن ثَمَّ إرسال التوجيهات لتنفيذ عمليات التفجير والقتل والدهس والطعن عن بُعدٍ.
الأوضاع على الأرض:
بالعودة إلى الأوضاع في العراق وسوريا، استطاع تنظيم "داعش" كسْبَ تَعاطُفِ الكثير من المواطنين السنة لأنهم وجدوا فيه -رغْمَ تشدّدِهِ في تطبيق الشريعة الإسلامية- المدافعَ الوحيدَ عنهم في خِضَمِّ هذا المُعترَك حيث يبحث كل طرف عن الحفاظ على مصالحه، حتى إن الحكومتين العراقية والسورية أهملتا حاجيات المواطنين وتركت الساحة فارغةً للتنظيم، وهي الفرصة التي استثمرها الأخير بدوره فملأ هذا الفراغ عبر تلبية تلك الحاجيات؛ ممّا عزّز من تعاطف المواطنين معه وسرّع من وتيرة انضمامهم إلى صفوفه.
على صعيد المعارك بين القوات العراقية المدعومة مِن قِبَلِ قوات التحالف من ناحية ومقاتلي "داعش" من ناحيةٍ أخرى، بات القضاء على وجود دويلة التنظيم بكِيانها المؤسسيّ مسألةَ وقتٍ، ولكن كيف سيتم القضاء على الأيديولوجيا التي تمكنت من النفوذ إلى عقول ونفوس المواطنين السنة في الموصل وغيرها؟ وكيف ستتم ملاحقة المقاتلين التابعين للتنظيم والذين تمكّنوا بالفعل من الفرار وهم على قناعةٍ بأن دولة الخلافة لابد وأنْ تقومَ وأنّ الجهاد أصبح فريضةً للدفع لا للطلب. وفي سوريا أعلنتْ قوات سوريا الديمقراطية عن بدءِ معركةِ تحرير "الرقة" معقلِ التنظيم بالبلاد. وتَهدِف تلك القواتُ التي تضمّ مقاتلين أكرادًا وعربًا وسريانيين وأرمن وتركمان إلى تحرير سوريا من التنظيم وإقامة دولةٍ سورية ديموقراطية عَلمانية تكفل الحرية والعدالة والكرامة لجميع السوريين. أهدافٌ لا يمكن تحقيقها دون استبعاد بشار الأسد من سُدَّة الحكم في سوريا وهو ما ترفضه روسيا بشكلٍ قاطع، ما يزيد أيضًا من احتمالية تورط الأطراف المختلفة في حربٍ عالمية على الأراضي السورية.
هذا؛ وقد يتم القضاء عسكريًّا على دويلة تنظيم "داعش"، ولكن العقيدة التي تحدثنا عنها والتي استقرت في أذهان أهل العراق من السنة لن يصححها سوى إيجاد حلول تتوافق عليها كافة الطوائف؛ على سبيل المثال يكون الحل في إقامة دولةٍ عراقية موحدة تضمن انتقالًا ديموقراطيًّا نزيهًا وسَلِسًا للسلطة بينَ مختلِف الطوائف الدينية، وكذلك كفالة ممارسة الحريات العامة والشعائر الدينية للجميع دون التطرق للحكم على صحتها من عدمه.
واختتم المرصد التقرير بقوله: إن الخطر الأكبر الذي يهدد الأمن بالمنطقة يكمن في التوتر الذي يخيم على المحيط السوري؛ لذا يجب على القوى العظمى أن تُبديَ استعدادها للتنازل عن بعض المكاسب والنفوذ، وإلّا سيؤدي الأمرُ إلى وقوعِ كارثةٍ أكبرَ.