لعبت المرأة دورا هاما في أشعار نزار قباني، فهي فى أشعاره إما الأخت أوالحبيبة والصديقة والأم والزوجة والابنة.
نظرة نزار للمرأة اختلفت باختلاف السن والأوضاع والتجربة، ففي دواوينه الأولى كانت نظرته إليها تتسم بالتجزيئية وتنصرف إلى الجسد وخاصة في ديوانه الأول ''قالت لي السمراء'' الصادر عام 1944.
إن أول ما يلفت الانتباه في هذا الديوان هو أن غالبية القصائد تدور حول دائرة مغلقة قلما تخرج عنها وهي دائرة الغزل الحسي المؤسس على الشوق العارم لمفاتن الجسد، وبذلك فهو يمثل استمرارا طبيعيا للغزل في شعرنا العربي القديم والجاهلي منه على وجه التحديد. إذ لم يكن الشاعر الجاهلي هو الآخر يرى في المرأة أكثر من جسد جميل يفتنه بتكوينه وانثناءاته، ويثير شهيته للمتعة الحسية مع اختلاف بالطبع بين الصورة الشعرية الجاهلية وإيحاءاتها وصور نزار قباني القائل في إحدى قصائد هذا الديوان:
أقبلت... مسحوبة يخضر تحتها الحجر
ملتفة شالهالا يرتوي منها النظر
أضحى من الضوء وأصفى من دميعات المطر
تعددت جوانب المرأة الإنسانية في شعره، فوجد فيها رمزا للوفاء والإخلاص، لأنها كانت تتذكر أدق التفاصيل التي جمعتهما في يوم من الأيام. وحتى عندما أرادت أن تتخلص من تلك الذكريات طلبت من الله تعالى أن يعينها على النسيان، يقول:
رباه أشياءه الصغرى تعذبني.
فكيف أنجو من الأشياء رباه.
هنا جريدته في الركن مهملة
هنا كتاب معا كنا قرأناه
أراد نزار قباني أن تكون المرأة ثائرة على كل الأوضاع التي تجعلها جارية تباع وتشترى بالمال، فدفعها إلى التمرد على كل شيء يحاول طمس إنسانيتها، فهي ليست وعاء وعورة، تلك النظرة التي التصقت بها قرونا طويلة، يقول:
ثوري ! أحبك أن تثوري..
ثوري على شرق السبايا.. والتكايا.. والبخور
ثوري على التاريخ، وانتصري على الوهم الكبير
لا ترهبي أحدا، فإن الشمس مقبرة النسور
أراد "نزار" أن تكون المراة مناضلة ومستقلة بأحاسيسها ومشاعرها، حرة في رأيها،وإلا فهو بريء منها، يقول:".. أما المرأة البليدة، الثقيلة الدم، المطفأة الروح، الميتة الأحاسيس والتي تنام إلى جانبي بجدار من الجليد.. فيحق ذبحها".
بل أكثر من هذا كره حتى الدفاع عنها: "ولكنني لا أسمح لنفسي ولا يسمح لي القانون، أن أدافع عن امرأة متلبسة بجريمة الغباء، أو الثرثرة، أو التسلط،أو موت الأنوثة" إذ أرادها مدافعة عن حبها. يقول في قصيدة: أيظن ؟على لسان امرأة:
أيظن أني لعبة بيديه ؟
أنا لا أفكر في الرجوع إليه
اليوم عاد كأن شيئا لم يكن
ليقول لي: إني رفيقة دربه
وبأني الحب الوحيد لديه
تطلع نزار إلى المرأة البسيطة أيضا التي لا تتكلف، المرأة العفوية التي ترفض التبرج وسيلة إلى قلب الرجل، بل تعتمد اللباقة والذكاء أرضية لجمالها حتى تتمكن من غزو قلبه، يقول:
أَحِبََّنِي كما أنا..
بلا مساحيق.. ولا طلاء..
أحبني.. بسيطة عفوية..
كما تحب الزهرة في الحقول.. والنجوم في السماء
فالحب ليس مسرحا تعرض فيه آخر الأزياء.
لعب صوت نزار دورا هاما في معالجة قضية المراة العربية لأنه شاعر عربي مؤمن بقضية تحرر الإنسان أينما كان وبصرف النظر عن جنسه ولونه أو عرقه.
يقول في كتابه قصتي مع الشعر: ''ليس من باب التبجح والغرور القومي أن أقول إن تجاربي وأبطالي وخلفية شعري كانت عربية مائة بالمائة والنساء اللواتي يتحركن على دفاتري هن عربيات وهمومهن عربية وأزماتهن وأحزانهن وصرخاتهن هي هموم وأزمات عربية. ''وإذا كانت المرأة تعي بشكل ضمني منذ ولادتها أنها غير مرغوبة ومقزمة موازاة والذكر.. فإن هذا الوضع يولد لديها عقدة نقص وكراهية حيال واقعها.. وبالتالي يصعب اندماجها بشكل سوي، وبالأحرى مشاركتها في الحراك الاجتماعي.
أنا بمحارتي السوداء.. ضوءُ الشمسِ يوجعني
وساعةُ بيتنا البلهاء.. تعلكني وتبصقني
مجلاتي مبعثرةٌ.. وموسيقاي تضجرني
مع الموت أعيش أنا.. مع الأطلال والدّمنِ
جميعُ أقاربي موتى.. بلا قبرٍ ولا كفنِ
أبوح لمن ولا أحدًا.. مِنَ الأمواتِ يفهمني ؟
أثور أنا على قدري.. على صدئي على عفني
و بيتٍ كلُّ مَنْ فيه.. يعاديني ويكرهني
أدقُّ بقبضتي الأبواب.. والأبوابُ ترفضني
بظفري أحفر الجدران.. أجلدها وتجلدني
أنا في منزل الأموات فمن من قبضة الموتى يحررني ؟!
إن هذه المرأة التي أعارت صوتها لشاعر الحرية والعشق تسخر من استبداد الرجل العربي الذي كان عليه أن يخلق رفقتها شرطا موضوعيا لانعتاق مجتمعي منشود لكنه أصر على استعبادها! ولهذه الأسباب تحديدا تستشعر إحساسا فادحا بخسارتها.. وعند هذا المستوى يتراجع الغزل الحسي موازاة وتجدر مطلب التحرر العام ومن داخله حرية المرأة. لنصغي له من جديد:
أحبُّ طيورَ تشرينِ.. تسافرُ حيثما شاءت
و تأخذُ في حقائبها بقايا الحقلِ من لوزٍ ومن تينِ
أنا أيضًا أحبُّ أكونَ.. مثل طيورِ تشرينِ
أحبُّ أضيعَ.. مثل طيورِ تشرينِ
فحلوٌ أن يضيعَ المرءُ.. بينَ الحينِ والحينِ
أريدُ البحثَ عن وطن.. جديدٍ غيرَ مسكونِ
وهذه قصيدة أخرى تسير في نفس الأفق التحرري. مشهد فتاة نزلت إلى الحديقة مع مطلع الربيع فاكتشفت أن الأرض تعيش حالة ولادة جديدة من خلال الثورة على فصل الشتاء.. وتتمنى لو تعيش ذات الولادة والحالة.. لكنها سجينة الخوف من السقوط في ''جنحة''الحب الذي يعاش عادة في الظلام وعن طريق التهريب. إحساس مرغوب ومنبوذ في ذات الآن!
نزلتُ إلى حديقتنا.. أزورُ ربيعها الرّاجعْ
عجنتُ ترابها بيدي.. حضنتُ حشيشها الطالعْ
أريد.. أريد أن أحيا.. بكل حرارة الواقع.. بكل حماقة الواقع
فهذه صرخة في وجه المجتمع العربي الذي تمزقه ازدواجيته! فهو يعتبر الحب جريمة تعاقب فيها المرأة ويسقط فيها الحكم على الرجل. مجتمع يدين المرأة نهارا ويسعى إليها ليلا. والسبب حيازتها لجسد يغري ويفتن لذلك وجب تكثيف الرقابة عليه لا خوفا عليها بل خوفا على ضعفه، لنعود لهذه القرينة النصية:
لماذا أهل بلدتنا يمزّقهم تناقضهم
ففي ساعات يقظتهم يسبّون الضفائر والتنانيرا
و حين الليل يطويهم يضمّون التصاويرا