بعد مرور 26 عامًا على رحيله، ما زالت أعماله ومؤلفاته خالده بيننا، "يوسف إدريس" كاتب وروائي خلد اسمه بحروف من ذهب في عالم القصة القصيرة، رحل عن عالمنا في 1 أغسطس من عام 1991، وهو صاحب قصة (الحرام) التي تحولت إلى فيلم يحمل نفس الاسم، الذي يعتبر واحدًا من أهم كتاب عصره لم يشغله النجاح والتقدير والانشغال بالقضايا السياسية ليتألق أيضا في كتاباته القصصية فقد ظلت قصصه القصيرة ومسرحياته تنشر في القاهرة والوطن العربي كما اتخذ الدكتور السيد فضل أستاذ الأدب العربي بالجامعة العربية قرارًا بادخال كتاب (المفارقة في قصص يوسف إدريس القصيرة) ضمن المقررات التي يدرسها طلاب الجامعة الأمريكية.
ولد يوسف إدريس في 19 مايو 1927 في قرية "البيروم" بمحافظة الشرقية، وكان والده ثريا نسبيا وينتمي إلى الطبقة الوسطى الريفية، وضمت أسرته عددًا من المتعلمين الأزهريين، وكان طالبا مجتهدا التحق بعد دراسته الثانوية بكلية الطب جامعة القاهرة وحصل على بكالوريوس الطب والجراحة عام 1951 وعمل في المستشفيات الحكومية.
الأديب الإنسان
لحظات الصدق، لحظات الضعف، لحظات المرض، وهي اللحظات التي يبوح خلالها المريض للطبيب بأدق التفاصيل التي يخفيها عن العالم أجمع، وكانت هذه هي بداية يوسف إدريس ليتقرب من النفس البشرية ويغوص في أعماقها ويكتب بعمق وصدق عن المجتمع والناس وما يواجهان من مشكلات، فقد كان يكتب كما يريد الناس أن تحكي، وكان يسرد كما كانت الناس تريد أن تعبر عما يجول بصدرهم من طموحات وأحلام وآمال وأوجاع، وما يقابلهم من منغصات ومؤرقات، لقد فهم النفس البشرية وعبر عنها وأتخذ من القصة القصيرة منبرًا له فكان أشجع الخطباء المفوهين، وأكثرهم قدرة على الكتابة المسموعة المرئية في نفس الوقت.
إدريس والمعتقل
ظل يوسف إدريس مهتما بالأدب والسياسة، وكانت له مواقفه السياسية الجريئة فسجن واعتقل أربع مرات قبل الثورة بسبب اشتراكه في الحركات الوطنية، وفي أحد مقالات يوسف إدريس التي نشرت بأحد الصحف المصرية، عن فترة سجنه تحت عنوان "سجن القلعة": كان سجن القلعة فترة مؤقتة يرحل بعدها المعتقلون إلى السجون، وكانت الثورة قد بدأت الاعتقالات، وكان من نصيبي سجن "الأوردي" وهو قرب أبوزعبل، ووضعت في عنبر "ب" الذي يضم من ليس لهم انتماء سياسي، ومرت الأيام كئيبة فالطعام لا يزيد عن حلاوة طحينية وطعمية، ورغم حبي الشديد للحلاوة، فإنني لم أكن أتصور أن يأتي يوما وأكرهها فيه هي والطعمية، حتى إني ظللت لمدة سنة ونصف لا آكل غيرهما.
الطبيب المعالج
كنت في السجن أقوم برعاية زملائي من الناحية الطبية، وذات صباح قيل لنا أنا وزميلي حمزة البسيوني الشاب التقدمي، سيفرج عنا، لكن يا فرحة ما تمت، فقد نقلنا إلى سجن مصر، وإذا بنا في غرفة بها سبعة معظمهم يبصق دما فقمنا بتحريض المساجين حتى أحضرت إدارة السجن سيارة أشعة جماعية وتبين إصابة 65 سجينا بالسل، وتم عزلهم وإرسالهم إلى مستشفى الصدر بالهايكستب، وبدانا انا وحمزة نحث السجناء على الخروج إلى الهواء، والمطالبة بتحسين نوع الأكل، شعر المسئولون في السجن أنني وحمزة سبب هذه القلاقل، فبدأوا الخطوات التأديبية، فتم فصلنا عن بعض وحلقت رؤوسنا وأضربنا عن الطعام، وبعد24 ساعة فوجئت بحمزة ينقر على الحائط الذي يفصل بيني وبينه وقال آن ذاك: إن ضربات قلبه تزيد فكدت أجن ولم أجد نفسي إلا وأنا أطرق الباب بشدة فكان أن علقني النوبتجية من رجلي وضربوني ثلاثين خرزانة، ومن حسن حظى لم أشعر برجلي بعد الضربة السابعة كما رشت أرض الزنزانة بالماء، بشاعة ما بعدها بشاعة وفى اليوم التالي خرج المساجين يحيونا في الحوش على شجاعتنا.
رحلته مع السودان
واستكمل في مقاله: "بدأت التهاني بإعطائي علبة سجائر، فجأة أبلغوني بالإفراج عني ثم نقلت إلى المباحث العامة بقصر عابدين ووجدت أن صلاح سالم يجرى مباحثات الوحدة مع السودان، ولكن السودان أثار مشكلة المعتقلين، وأولهم أنا فقرر صلاح سالم أن يفرج عن المعتقلين من الأدباء والكتاب، ويرسلهم إلى السودان لذلك أخذونا إلى عابدين لمقابلة صلاح سالم، وكنا في حالة يرثى لها نرتدي بيجاما ممزقة حفاة القدمين حليقي الرءوس على "الزيرو"، عرض علينا الأمر لكننا رفضنا خداع أشقائنا السودانيين فأعطانا مهلة أسبوعا، وسلم ربنا وخرجنا من المعتقل واستقال صلاح سالم، وعدت إلى عملي مفتش صحة الدرب الأحمر".