يمر إقليم كردستان بمنعطف مصيري هو الأهم في تاريخه حتى اللحظة، حيث قررت الأحزاب الكردية إجراء استفتاء شعبي بخصوص الاستقلال عن العراق، بهدف تشكيل دولة مستقلّة.
القوى السياسية الكردية وجدت أن ظروف العراق المتردية بسبب حربه على تنظيم "داعش"، والضعف الذي يعانيه بسبب المشاكل الأمنية والسياسية والاقتصادية، ملائمة لتحقيق حلم الدولة الكردية، خاصة بعد الأحداث الأخيرة التي انشغلت بها القوات العراقية بمعارك استنزاف على جبهات متعددة، فضلاً عن الدور الكبير الذي أدّته قوات البيشمركة في المعارك، وسيطرتها على مناطق النزاع مع الحكومة المركزية، وتشكيل واقع جديد يفرض سيطرة الإقليم إدارياً على هذه المناطق.
سيقام الاستفتاء علي انفصال من قِبل أكراد العراق عن بغداد وتأسيس دولة كردستان المستقلة، وكان رئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني قد دعا الدول الكبرى إلى التوصل لاتفاق يعيد رسم حدود الشرق الأوسط بما يمهد الطريق أمام إقامة الدولة الكردية.
-موقف الكيان الصهيوني من انفصال الإقليم
دعت وزيرة العدل الإسرائيلية إيليت شاكيد إلى ضرورة الاعتراف بحقوق الشعب الكردي في إقامة دولته المستقلة على الحدود مع العراق وتركيا، مشيرة إلى أن تفكك الدول ينتج عنه تنظيمات إرهابية وتصاعد نفوذ إيران، خاصة عقب الاتفاق النووي الأخير؛ ما يدفع إسرائيل إلى العمل جنبًا إلى جنب مع المنظمات غير الحكومية، وأضافت الوزيرة الإسرائيلية أن الاعتراف بحقوق هذه القوميات، خاصة الكردية، التي تفصل بين حدود عدة دول، مثل تركيا وإيران والعراق وسوريا، أفضل بكثير من الاستماع إلى منظمات حقوق الإنسان التي توجه الإساءة لإسرائيل.
ويرى سياسيون أن علاقة الكيان الصهيوني مع الأكراد يمكن أن تقوم على مبدأ "عدو عدوي صديقي"، فانتشار الأكراد باعتبارهم أكبر مجموعة عرقية في العالم بدون وطن قومي، بين دول تعادي الكيان الصهيوني ولا تسمح بقيام أي كيان كردي مستقل، كإيران والعراق وسوريا، يسهّل من وجهة النظر الصهيونية من توظيف هذه العلاقة في تحقيق المصالح الإسرائيلية بالمنطقة، خاصة لإضعاف الخصم عبر الانغماس في المشكلة الكردية، التي تعبتر واحدة من أكبر مشاكل الدول الأربعة التي تتقاسم الوطن الكردي (إقليم كردستان).
ولا تُعَد هذه المرة الأولى التي يدعم فيها الكيان الصهيوني قيام دولة كردية منفصلة عن العراق، فهذه الإرادة الصهيونية أكدها الرئيس السابق شيمعون بيريز في رسالةٍ وجهها إلى الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، يقول فيها إنه لا يرى توحيد العراق ممكنًا بدون تدخل خارجي كبير، وإن هذا يؤكد انفصال الأكراد، خاصة وأنهم أقاموا دولتهم من الناحية الفعلية وهي ديمقراطية.
-تركيا وانفصال إقليم كردستان
يشكل النفط ركيزة أساسية للاقتصاد بإقليم كردستان العراق، وتشير تقديرات اقتصادية إلى احتواء الإقليم على أكثر من 45 مليار برميل بترول من الثروة النفطية للعراق، ثالث أكبر منتج للخام الأسود في العالم.
ويصدر كردستان العراق نحو 100 ألف برميل نفط يوميًّا عبر ميناء جيهان التركي، وأثار تصدير هذا النفط مشكلات متكررة بين أربيل وحكومة بغداد، وفي عام 2013 أسس إقليم كردستان وتركيا أنبوبًا خاصًّا بهما لتصدير النفط إلى أوروبا عبر ميناء جيهان التركي.
مراقبون سياسيون قالوا إنه في حكم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي أبلغت الحكومة التركية، برئاسة رجب طيب أردوغان حينها، مسعود بارزاني أنها ستؤيد قيام دولة كردية مستقلة، في حال ما إذا كان الخيار الوحيد أمام الأكراد لمواجهة سياسات المالكي.
ورأوا أن وراء تأييد حكومة حزب "العدالة والتنمية" في أنقرة لدولة كردية مستقلة برئاسة بارزاني سببين جوهريين: الأول يتعلق بالاستراتيجية التركية الإقليمية، فقيام دولة كردية سيسهم في إضعاف النفوذ الإيراني داخل العراق وإقليم كردستان بشكل خاص.
والثاني متعلق بالمشهد السوري؛ حيث تعتقد حكومة أردوغان أن قيام دولة كردية يمثل أمرًا حيويًّا لاحتواء المشكلة الكردية الإقليمية، التي ستتصاعد وفقًا لتبعات الملف السوري.
كما يمكن لتركيا أن تجد في الدولة الكردية المستقلة شمال العراق منطقة استقطاب لمشكلة الأكراد داخل تركيا؛ ما يترتب عليه إنهاء العمل المسلح لحزب "العمال الكردستاني" برئاسة عبد الله أوجلان، والذي كلف الدولة التركية الكثير من الأعباء الاقتصادية والعسكرية والأمنية.
-الأكراد وحلم الانفصال
سعى أكراد كردستان العراق لاقتناص الفرص للانفصال عن العراق، لكن وفق شروطهم المتمثلة في ألا يكون هناك انفصال عن العراق دون مدينة كركوك؛ فهم يعتبرونها عاصمة الإقليم، كما أنها من أهم المناطق العراقية الغنية بالنفط.
وفي 2014 أصبحت حقول نفط كركوك تحت قبضة إقليم كردستان، وتبرر حكومة إقليم كردستان استيلاءها على محافظة كركوك بأنها أنقذت المحافظة من طموح داعش للاستيلاء عليها، فيما تقول الحكومة المركزية في بغداد إن دوافع أربيل للسيطرة على كركوك تعويض نقص المخصصات المالية للإقليم،عبر زيادة تصدير النفط إلى تركيا.
ملامح إقليم كردستان تغيرت بشكل كبير منذ بدأ داعش السيطرة على مدينة الموصل شمالي العراق منتصف 2014، حيث فرضت قوات البيشمركة التابعة لإدارة الإقليم هيمنتها على مدينة سنجار، وضمت محافظة كركوك الغنية بالنفط، بعد أن كانت تابعة لسيطرة الحكومة في بغداد.
مهد ضم كركوك الطريق أمام قدرة الإقليم الكردي على الانفصال، بالإضافة إلى أن التغيرات الساخنة التي تشهدها الساحة الإقليمية والعالمية أخذت تمهد الطريق أكثر فأكثر، حيث قال مسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان: أعتقد أن القادة في الغرب وصلوا إلى قناعة بأن عصر سايكس-بيكو قد انتهى.
يذكر أن الأكراد يعيشون في شمال العراق منذ فترة طويلة تمتد إلى الحقبة السومرية، وهي ليست الدولة الوحيدة في المنطقة التي يعيش فيها الأكراد، فهناك أكراد في سوريا وإيران، بالإضافة إلى تركيا التي يوجد فيها أكبر عدد من الأكراد، حيث تشير المعلومات إلى أن عددهم يصل إلى 19 مليون نسمة، ويقيم الأكراد في العراق بإقليم كردستان وعاصمته أربيل.
وحمل إقليم كردستان العراق اسم منطقة الحكم الذاتي الكردية منذ عام 1979، حيث وقع الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، والذي كان يشغل وقتها منصب نائب رئيس مجلس قيادة الثورة العراقي، وممثلون لزعيم المتمردين الأكراد وقتها مصطفى البارزاني على اتفاقية أنهت سنوات من الحرب بين بغداد والأكراد، وفي عام 2005 تحولت منطقة الحكم الذاتي الكردية إلى الاسم الحالي "إقليم كردستان العراق"، الذي أصبح له علم ودستور ونشيد قومي وحكومة وبرلمان خاصة به، وأصبحت اللغة الكردية رسميًّا ودستوريًّا اللغة الثانية في العراق بعد اللغة العربية.
لكن، هل سيمر الاستفتاء بسلاسة ودون حصول تداعيات؟ الأمر المؤكّد أن الخطوة ستولّد زوبعة سياسية بدأت نذرها من لحظة الإعلان عن الاستفتاء، إلى جانب ذلك سيكون له آثار اقتصادية على العراق عموماً، وإقليم كردستان خصوصاً، وبما يشكّله النفط من عمود فقري لذلك القطاع.
- العلاقة بين حكومة الإقليم والمركز
مرت العلاقة بين أربيل والحكومة المركزية العراقية مؤخراً بفترات حرجة سياسياً واقتصادياً، خاصة بعد أن امتنعت بغداد عن دفع رواتب موظفي الإقليم، ورفضها أيضاً دفع نسبة الـ 17% من عائدات النفط المخصصة بموجب الدستور لإقليم كردستان، وكذلك تقليص حصتها من الميزانية العامة للدولة؛ بسبب تشييد كردستان خط أنابيب يصل إلى تركيا، سعياً لتحقيق الاستقلال الاقتصادي.
ويبلغ حجم الاقتصاد العراقي مجملاً نحو 223 مليار دولار، وفق إحصائيات عام 2015، وهو يعتمد اعتماداً كلياً على القطاع النفطي، حيث يكوّن 95% من إجمالي دخل العراق.
وبلغت الميزانية الفيدرالية العراقية عام 2016 نحو 90 مليار دولار، بعجز يُقدّر بـ 21 ملياراً، بناء على تقدير الموازنة أنها ستصدّر 3.6 ملايين برميل نفط يومياً بسعر 45 دولاراً للبرميل.
وتقل صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية أن "الجوانب السلبية لانفصال إقليم كردستان عن العراق لن تكون واضحة لعدة اعتبارات؛ أهمها أن حكومة الإقليم لم تقدم منذ العام 2003 وإلى اليوم أي كشف بحساباتها لبغداد، وخاصة تلك التي تشمل الإيرادات والتحصيل الجمركي".
وأشارت إلى أن "حكومة الإقليم دائماً ما كانت تخل بالاتفاقيات التي تُوقع في بداية كل موازنة جديدة تقرها الحكومة المركزية بشأن تصدير النفط، والتي تنص على وجوب قيام حكومة إقليم كردستان بتصدير 550 ألف برميل نفط يومياً، منها 300 ألف برميل من حقول كركوك، و550 ألف برميل يومياً من حقول كردستان"، مؤكداً أن "الإقليم يُصدر من دون تحويل الإيرادات النفطية إلى خزينة الدولة".
وقالت أن "الآثار السلبية ستكون على حكومة الإقليم أكثر منها على العراق نفسه؛ لقيام بغداد بقطع التزاماتها تجاه الإقليم، خاصة الـ 17% من ميزانية الدولة".
- إقليم كردستان ودول الجوار
لكن هذه الحسابات لا تتوقف عند الحدود المحلية للعراق، بل تتعداها إلى خارج الحدود، وبالتحديد العلاقة مع دول الجوار والعالم.
قرر إقليم كردستان بناء دولة مستقلّة تكون عضواً في الأمم المتحدة، تربطها أفضل العلاقات مع الجوار، لكي يتسنى لحكومة الإقليم تأسيس علاقات اقتصادية قوية وقانونية مع تلك الدول، ما يؤهلها لعقد اتفاقيات تجارية واستثمارية، وخاصة في قطاع النفط مع هذه الدول بشكل قانوني.
و اضافت الصحيفة أن لتلك الخطوة آثار سلبية أيضاً إذا ما تطور موقف دول الجوار من الانتقاد إلى أخذ إجراءات بحق الإقليم، ما سيؤثر سلباً في الوضع الاقتصادي لكردستان، ومن ثم فإن الوضع يتوقّف على موقف كل من تركيا وسوريا وإيران، وكذلك موقف الحكومة المركزية ومفاوضات الانفصال بعد الاستفتاء.
و قالت الصحيفة أن الإقليم سيعاني إذا ما أعلن الاستقلال؛ بسبب إجراءات حكومة بغداد أولاً، وبسبب ما توقعه من إجراءات اقتصادية وسياسية ستقوم بها دول الجوار ضد كردستان"، مستدلاً على وجهة نظره بـ "الانتقادات والاعتراضات التي صدرت من إيران وتركيا".
وتشير الصحيفة إلي أن أي خطوة للعبور إلى دولة كردية لا بد أن تحقق ثلاثة شروط مجتمعة لا تقبل التجزئة؛ أولها أخذ الضوء الأخضر الدولي، خاصة من الدول الكبرى الفاعلة على الأرض، وثانيها إقناع الدول الإقليمية، وخاصة تركيا وإيران، وثالثها تحقيق الاستقلال الاقتصادي للدولة الوليدة.
شكل استفتاء أكراد العراق بشأن الاستقلال حافزاً لأكراد سوريا على التمرد أكبر مما شكله الحكم الذاتي لأكراد تركيا، الذين كانت معركتهم ضد دولة مستقرة وجيش قوي، وقرار معركتهم -التي بدأت في 1984- سبق ذلك الوقت الذي كان فترة استقرار سياسي وأمني في الدول الرئيسية الثلاث (تركيا والعراق وإيران).
"يتحرك أكراد سوريا في حالة اللادولة وخارج سيادة وأمن الدولة، وفي منطقة تبحث شعوبها عن هوية سياسية جديدة، وهي بمجملها عوامل مثالية لمشروع انفصال ينتظر شرارة الاشتعال.
وفي المقابل يتحرك أكراد سوريا في حالة اللادولة وخارج سيادة وأمن الدولة، وفي منطقة تبحث شعوبها عن هوية سياسية جديدة، وهي بمجملها عوامل مثالية لمشروع انفصال ينتظر شرارة الاشتعال.
وما يذكي هذا المنحى هو مرور المنطقة بمرحلة تقاسمات مصالح دولية لا تقل عمقاً عن تلك التي ثلث الحرب العالمية الأولى، لكنها توظف الأقليات بدل الدبابة والمدفع.
سيفتح استفتاء أكراد العراق الذي لن يحصل إلا بضوء أخضر أميركي شهية أكراد سوريا لانفصال لا مناص منه.
وهي كلها قنابل موقوتة تتحكم القوى الخارجية في ساعتها الزمنية، ولا تبعث على الاطمئنان في المدى المتوسط والبعيد وربما القريب أيضاً.