يجلس واضعًا قدم على الأخرى، بوسط ميدان باب الشعرية، يحمل بين يديه 26 جائزة ووسام ونيشان، يحفظ في ذاكرته وذاكرة من يمرون عليه، أعمالًا خلدها التاريخ، ما بين السينما والدراما، والموسيقى العربية.
«محمد عبد الوهاب» موسيقار الأجيال الذي ارتبط بأمير الشعراء أحمد شوقي ولحن له العديد من الأغاني، وكذلك للفنانين أمثال فيروز، و أم كلثوم، وليلى مراد، وعبد الحليم حافظ، ونجاة الصغيرة، وفايزة أحمد، ووردة الجزائرية، وصباح، وطلال مداح، وأسمهان، إلى جانب أنه كان أول مكتشف للفنان إيهاب توفيق في أواخر الثمانينات.
«الموسيقار العبقري» رحل عن عالمنا في 4 مايو عام 1991، 25 عامًا مرت على فراق "عبد الوهاب" لكن مازالت موسيقى «لا تكذبي» لنجاة الصغيرة، وألحان «في يوم وليلة» لوردة الجزائرية، وأنغام البسطاء في «محلاها عيشة الفلاح» لأسمهان، والطريق الممتع في «سكن الليل» لفيروز، و«نبتدي منين لحكاية» لعبد الحليم حافظ، تخلد أعملًا موسيقية بدرجة امتياز للموسيقار محمد عبد الوهاب.
ولد محمد عبد الوهاب في 13 مارس 1902م، في حي باب الشعرية، ووالده الشيخ محمد أبو عيسى المؤذن والقارئ في جامع سيدي الشعراني في باب الشعرية.
في بدابة عمله بالفن، غنى محمد عبد الوهاب أغاني الشيخ سلامة حجازي، تحت اسم مستعار «محمد البغدادي» حتى لا تعثر عليه أسرته، التي عثرت عليه فهرب منهم مع فرقة سيرك إلى دمنهور حتى يستطيع الغناء، وطُرد من فرقة السيرك بعد ذلك ببضعة أيام لرفضه القيام بأي عمل سوى الغناء، فعاد إلى أسرته بعد توسط الأصدقاء له.
انضم إلى فرقة عبد الرحمن رشدي، بعد موافقة عائلته، على مسرح برنتانيا مقابل 3 جنيهات شهريًا، وكان يغني نفس الأغاني للشيخ سلامة حجازي، إلى أن تم منعه من الغناء لصغر سنه بعد أن طلب ذلك أحمد شوقي.
التحق عبد الوهاب بنادي الموسيقى الشرقي، وتعلم العزف على العود على يد محمد القصبجي، وتعلم فن الموشحات، وعمل في نفس الوقت كمدرس للأناشيد بمدرسة الخازندار، ثم ترك كل ذلك للعمل بفرقة علي الكسار كمُنشد في الكورال وبعدها فرقة الريحاني عام 1921، وقام معها بجولة في بلاد الشام وسرعان ما تركها ليكمل دراسة الموسيقي ويشارك في الحفلات الغنائية، وأثناء ذلك قابل سيد درويش الذي أُعجب بصوته وعرض عليه العمل مقابل 15 جنيهًا في الشهر في فرقته الغنائية، وعمل في روايتي البروكة وشهرزاد، وبالرغم من فشل فرقة سيد درويش إلا أن عبد الوهاب لم يفارق سيد درويش بل ظل ملازماً له يستمع لغنائه ويردد ألحانه حتى وفاة سيد درويش.
بعد أن سطع نجم "عبد الوهاب" طلب منه الرئيس الراحل أنور السادات، وضع نشيد وطني لمصر، وفرح عبد الوهاب بهذا التكليف، ومنحه وقتها رتبة عسكرية فخرية هي رتبة لواء إلا أنه طلبه لوضع اللحن كان مشروطًا وبشرط قاس، فقد طلب من عبد الوهاب عدم وضع نشيد جديد، وإبداع لحن جديد وإنما فقط إعادة صياغة نشيد مصر الأول بلادي بلادي لسيد درويش والذي عاد وحده تلقائيًا بين الجماهير في تلك الأيام بعد النكسة وردده الناس بحماس في كل مكان، لم يتكدر عبد الوهاب طويلا كون واضع اللحن أحد معلميه الأوائل في بداية حياته، وانطلاقًا من مبدأ الوفاء للوطن ثم المعلم لم يجد أي غضاضة في ذلك واندمج في إخراج نشيد أستاذه سيد درويش في أبهى صورة.
ووضع السادات تحت إمرة عبد الوهاب فرقة الموسيقات العسكرية المصرية الحائزة على المركز الأول بين الفرق العسكرية العالمية لعدة سنوات على التوالي، وبها أمهر الخبرات ولها كل الإمكانيات بدءًا من الآلات حتى الملابس، ويتفرغ عبد الوهاب للمهمة في تواضع شديد واعتراف جميل بفضل موسيقار مصر الأول ونابغتها سيد درويش عليه وعلى البلاد، والذي استطاع توحيد أبناء أمته في نشيد رمزي من كلماته، وأعاد توزيعه بعد نصف قرن من رحيله، ويقود محمد عبد الوهاب الموسيقى العسكرية، وهو في زيه العسكري لتعزف نشيد «بلادي» لأول مرة في تاريخها ويتحول من نشيد شعبي إلى نشيد رسمي، وتطير نوتته الموسيقية إلى السفارات المصرية في جميع أنحاء العالم وتودع نسخ منها بجميع السفارات الأجنبية بالقاهرة، ليعزف في جميع المناسبات الوطنية والدولية.
عمل موسيقار الأجيال مع كوكب الشرق أم كلثوم، لتغني الست عشرات الأغنيات من تلحين موسيقار الأجيال منها «انت عمري، أمل حياتي، فكروني، أغدًا ألقاك، ليلة حب».
وبعد رحلة طويلة من الإبداع، توفي موسيقار الأجيال، إثر جلطة مفاجئة، وشيع جثمنه في جنازة عسكرية، تاركًا خلفه أعمالًا خالدة.