جميعنا نعتقد أن الكاذبين هم دائمًا أشخاص آخرون حيث يتهم العشاق بعضهم البعض بالخداع عند الخلاف ويرى الناخبون جميع السياسيين كاذبين ويتهم المتدينون الملحدين بكراهية الحقيقة، بينما يتهم الملحدون المتدينين بالانصياع وراء معتقدات خاطئة.
ولا يهم على أي جانب أنت في هذه الحجج، حيث تبقى القاعدة الأساسية هي: “أنا أقول الحقيقة، وأنت تحاول خداعي بالأكاذيب”، لكن الأمر الغريب هو أنه خلافًا للسرقة أو القتل، يعد الكذب جريمة أخلاقية نرتكبها جميعًا وبشكل منتظم.
وبحسب صحيفة “ديلي ميل” البريطانية، طلبت إحدى الدراسات من 147 شخصًا تسجيل كذبهم عدة مرات، لمدة أسبوع، ووجدوا أن المشاركين اعترفوا بأن متوسط كذبهم في اليوم بلغ 1.5 مرة، فنحن نكذب بالقول: “أنا بخير، شكراً”، عندما نشعر بالبؤس.
وعندما نقول: “يا له من طفل جميل”، بينما نقول في أنفسنا إنه يشبه المخلوقات الفضائية، كما يقوم معظمنا بالتظاهر بالغضب أو الحزن أو المودة أو قول: “أنا أحبك” دون أن نعني ذلك.
نحن نقول لطفلنا أن يبتسم ويبدو ممتناً لهدية الجدة الغريبة لعيد ميلاده، وربما نكذب ونقول إن “بابا نويل” سيغضب ولن يأتي هذا العام إذا لم يفعل ذلك.
وهناك استثناءات يُسمح فيها بالكذب، ونوافق عليه في بعض الأحيان، فإذا أخبر طبيب زوجًا أن زوجته توفيت على الفور في الحادث، بدلاً من الحقيقة أنها أمضت ساعاتها الأخيرة بألم مروع، نثني على تعاطف الطبيب.
فنحن نسمي الأكاذيب التي نحبها “الأكاذيب البيضاء“، لكن في الحقيقة نحن نعجز عن تعريفها، ورغم رفض المجتمع رسمياً للكذب، إلا أن الكاتب إيان ليسلي، يرى أن الكذب “ضرورة إنسانية أساسية”.
تعزيز الصداقات
أشار الكاتب إلى أن الإنسان يبدأ في الخداع تقريباً منذ الولادة، حيث ركزت دراسة على خداع الأطفال الذين تقل أعمارهم عن سنة، ومن بين العديد من الأمثلة، وجدت الدراسة أن الأطفال في تلك الفئة العمرية يبدأون بالتظاهر بالضحك كوسيلة للإشارة إلى أنه يريد الانضمام إلى الآخرين الضاحكين، ما يشير إلى أن الكذب أمر فطري بالإنسان مثل التواصل، وبنفس الأهمية لبقائنا، إذ يجد المرء نفسه في مرحلة ما من حياته بمحادثة سياسية يختار فيها الموافقة على ما لا يتفق معه لتجنب جدال غير مرحب به.
ويستجيب الإنسان لتلك الصراعات بمحاولة الموازنة بين رغبته في الصراحة ومحافظته على مكانته في المجتمع، والواقع أننا غالباً ما نختار أن نفعل ذلك عن طريق الكذب، وتعتبر العبارات مثل: “نعم، هذا اللباس يبدو جميلاً عليك”، أو “أنا آسف جداً أنا مشغول تلك الليلة”، أو “بالطبع أنا لا أمانع”، أكاذيب بيضاء تساعد على حل المشاكل الاجتماعية اليومية، فهي الطريقة التي نتجنب بها إيذاء مشاعر الناس.
وإذا لم تتفق مع هذه النظرية، تخيل استخدام الصراحة القاسية طوال اليوم في جميع الحالات المذكورة أعلاه، وما سيحدث نتيجة لذلك.
علاقة الكذب بالصحة
يعد الكذب على الآخرين جزءاً واحداً من المسألة، فالجزء الآخر هو الأكاذيب التي نخبربها أنفسنا في بعض الأحيان دون علم، وهذا الخداع الذاتي ضروري لصحتنا.
فمن المثير للاهتمام أنه عندما قارنت دراسة بين مرضى جراحة الليزر لأمراض القلب، وأولئك الذين خضعوا لعملية وهمية، وجد الباحثون أن معظم المرضى الذين خضعوا لجراحة الليزر شهدوا تحسناً ملحوظاً في صحتهم، وأشادوا باستعادة القدرة على ممارسة الرياضة البدنية، وانخفاض آلام القلب، وشعورهم بالصحة واللياقة البدنية.
لكن المثير للدهشة هنا هو أن مجموعة المرضى الذين خضعوا للجراحة الوهمية، شهدوا تحسناً صحياً أيضاً رغم عدم الخضوع لأي علاج، كما أنهم أشاروا إلى الشعور بتجدد صحتهم، وانخفضت وتيرة آلام الذبحة الصدرية.
ومن حيث التأثيرات على المرضى، لم يكن هناك فرق كبير بين المجموعتين، وهذا مثال رائع على تأثير الدواء الوهمي، الذي أظهر أنه إذا أُعطي شيئ لشخص ما يعتقد أنه سيجعله يشعر بتحسن، فهذا ما سيحدث.
ولكن بالطبع الاعتقاد له مفعول كبير، فليس هناك أي دليل يشير إلى أنه يمكن وقف نمو الأورام السرطانية، لكن إذا كنا نتوقع أن نشعر بتحسن، فسنشعر بتحسن حتى لو كان هذا التوقع مبنيًا على كذبة.
الحفاظ على العلاقات
إذا طُلب منك تعريف قصير للعلاقة العقلانية، فربما تقول إنها العلاقة الخالية من الأوهام، لكن الواقع أن رؤيتنا لشركائنا من خلال نظرة فريدة ربما تكون غير عقلانية، تساعد على التكوين والحفاظ على علاقاتنا الرومانسية.
وهذا سبب وجيه للاعتقاد بأن هذا النوع الخاص من الخداع الذاتي يعمل كوسيلة طبيعية للبقاء من خلال التزاوج والتكاثر، الذي عادة ما يكون متأصلاً بنا عن طريق التطور الطبيعي.
فمن شأن نسبة معقولة من التفاؤل غير الواقعي أن تساعدنا أنفسنا على البقاء على قيد الحياة في بيئة الأجداد الغادرة (بيئة الإنسان الأول) وإغراء شريكتنا المحتملة بثقة.
ورغم أننا الآن نعيش في منازل مكيفة بدلاً من الكهوف، إلا أننا لا زلنا نعتمد على الأوهام لمساعدتنا على تخطي عقبات الحياة، إذ نتصور أن الإنجاب سيجعلنا أسعد على الرغم من أن الدراسات تشير إلى أن هذا هو في أفضل الأحوال غير مؤكد.
كما نقع في حب شخص نعتقد أنه يناسبنا بشكل فريد، ما يساعدنا على البقاء معه لفترة طويلة تكفي لتربية الأطفال. ومن الشائع أيضاً أن يعتقد المرء أن علاقاته ستكون أفضل من معظم الآخرين.
النجاح في خداع النفس
وجدت الدراسات الإحصائية أن أولئك البارعين في خداع الذات هم أكثر نجاحاً في المدرسة والأعمال التجارية من غيرهم، كما يعتقد بعض الاقتصاديين أن البلدان تصبح راكدة اقتصادياً عندما يكون رجال الأعمال عقلانيين أكثر من اللازم.
فالعالم بحاجة إلى أصحاب المشاريع المتحمسين أكثر من اللازم، لاتخاذ مجازفات خطيرة، فبدون الأشخاص المستعدين لتجاهل الحكمة السائدة واتباع حدسهم، لما كان العديد من أكبر الابتكارات والقفزات الإبداعية إلى الأمام موجودًا الآن.
كل عام، يبدأ الآلاف من الأشخاص الطموحين بشركات جديدة رغم العلم بأن نسبة نجاحهم ضئيلة، وبالفعل يفشل معظمهم أو يقبلون بشيء أقل، ولكن عددًا قليلاً من تلك الشركات تصبح في نهاية المطاف “أبل” أو “ستاربكس” أو “دايسون”.