لم يحلم الموظف العجوز أن تمتد به العمر، ليشهد تبدُل الحال في قطاره الذي يقوده منذ شبابه الأول إلى الصعيد، فخلال سنوات عمل تخطت الـ35 عاما، لم يحرك الرجل تلك القطعة الحديدية من سلسلة مفاتيحه، فكانت وسيلته للتواصل مع فريق العمل، طوال الرحلة الممتدة على قضبان "الموت"، كما يطلقون عليها.
"صافرة".. هي الفاصلة بين الحياة والموت، إشارة منها قد تحميك من انقلاب وشيك للقطار، أو هجوم من بلطجية وقطاع طرق، أو حادث عابر قد يلم بك، يتسلمها قائد القطار ومساعده، والكمسري المصاحب له –وعددهم الآن اثنان للقطار كله-، وتعلق في سلسلة المفاتيح الخاصة بهم، لا يفارقونها أو تفارقهم إلا بالخروج إلى المعاش في سن الستين، كما ذكر أحد السائقين.
"أهل مصر" تأخذكم في رحلة سريعة للتعرف على "صافرة الاستغاثة" أو الإشارة..
منذ انطلاق سكك حديد مصر، في عام 1834، كأول الخطوط العربية والشرق أوسطية، وثاني الخطوط بالعالم كله، بعد سكك حديد لندن العريقة، ومع أول رحلة خاضها قطار مصر على خط "السويس- الإسكندرية"، انطلقت أول إشارة لصافرة قائد القطار، لتعلن عن بدء العمل بخطوط الهيئة، لتظل الصافرة رمزًا لأجيال متعاقبة، امتدت لما يقارب 180 عاما.
يستخدم السائقون و"الكمسرية" الصافرة الحديدية الصغيرة، كأداة من أدوات الإنقاذ والاستغاثة، فبالإضافة إلى "البيرق الأحمر" و"الكبسولة"، يتسلم فريق العمل "صافرة" حديدية، كعهدة شخصية يحاسبون على فقدانها، ويتعرضون لخصومات أو يصبحوا مسئولين عن شراء البديل على حسابهم الشخصي.
وحكى قائد قطار لـ"أهل مصر" كيفية استخدام الصافرة قائلا: "حينما يتعرض القطار لأي طارئ، مثلما حدث في قطار الإسكندرية الأخير الذي تعطل بمحطة خورشيد، ينطلق الكمسري جاريًا نحو العربة الخلفية بالقطار ومعه الصافرة والبيرق والكبسولة، فيطلق صافرته لتحذير قائد القطار، ومعها الإشارة الحمراء المسماه بالبيرق وهي عبارة عن قطعة قماش يشتريها على حسابه الشخصي، ثم يجري لمسافة 500 متر على القضبان بعد آخر عربة، ليضع الكبسولة، والتي تنفجر تحت عجلات القطار القادم من الخلف، فينتبه السائق ويخفف سرعته، ثم يتوقف نهائيًا".
وأكمل، أنه في حال تعرض الطاقة لأي نوع من البلطجة أو الانتهاك يطلق الكمسري المسئول صافرته، والتي تعتبر وسيلة نداء واستغاثة لرجال المباحث المصاحبين للرحلة، بينما يطلقها إذا كان متوقفًا في إحدى المحطات لاستدعاء رجال شرطة النقل والمواصلات على الرصيف، فيقدموا للمساعدة.
وعلق السائق على أداء شرطة النقل والمواصلات، بأنه أصبح ضعيفًا معهم خاصة بعد يناير 2011، وأنهم في حاجة إلى إعادة الانضباط داخل القطارات وعلى الأرصفة بشكل أكبر من ذلك، مختتما: "أصبحت تلك الصافرة جزء لا يتجزأ من حياتنا اليومية، ولن تخرج من سلسلة المفاتيح حتى بعد المعاش".