تناولت فى العدد السابق مرحلتين من مراحل تطور الرواية والفن الروائى، مؤكدًا على أهمية الرواية، باعتبارها ديوان العصر، وهنا نتابع بقية مراحل تطور الرواية وآثرها:
المرحلة الثالثة: من مراحل تطور الفن الروائى كانت على يد نجيب محفوظ، وفى هذه المرحلة أصبح هناك اكتمال للنضج الروائى، إذا ما اعتبرنا المراحل السابقة هى بداية للنضج والتفتح الروائى، فإن مرحلة نجيب محفوظ هى الاكتمال الحقيقى للكتابة الروائية، والتى أصبحت مثالًا سار وراءه الكثيرون، محاولين التقليد والإضافة، الأمر الذى جعل للرواية مكانتها العظيمة بين الآداب الأخرى، ولا بد وأن نعى ونعرف أن نجيب محفوظ كان قد تأثر بالكاتب الإنجليزى الشهير ولتر سكوت وحذا حذوه فى كتابة تاريخ بلاده روائيًا، إلا أنه وعلى الرغم من ذلك لم يكتب من الروايات التاريخية سوى ثلاث روايات، هى "عبث الأقدار"، والتى كانت أول رواية له، كتبت عام 1939 ثم "كفاح طيبة" و"رادوبيس"، وبعدها تطرق نجيب محفوظ إلى موضوعات شتى من التاريخية والرومانسية إلى الواقعية، وينتقل من عبث البحث فى الواقع إلى عبث البحث فى الوجود، فقد تناول العديد من القضايا الوجودية، مثل الخوف والعجز واليأس، كما فى روايات "السمان والخريف" و"اللص والكلاب" و"الطريق".
لقد حرص نجيب محفوظ على تصوير الواقع المصرى بكل دقة، وبكل ما أوتى من قدرة على ذلك، ممسكًا فى يده كاميرا دقيقة، تستطيع أن تلتقط تفاصيل الأشياء، محاولًا فى الوقت ذاته التأكيد على الفكرة التاريخية للأحداث من خلال الوصف والسرد، اللذين يمتلك ناصيتهما جيدًا، ونلاحظ أن نجيب محفوظ وإن استدعى جزئية من جزئيات التاريخ، فإنه يأتى بها من أجل بث قيمة معاصرة وهى الصراع من أجل الحرية، وهو فى طريقه إلى ذلك لا ينسى أن يُخضع ذلك التاريخ للفن الروائى، الذى جعله يسهل قراءة التاريخ، حين أدخل عليه عنصرى الزمان والمكان، فضلاً عن الحدث والعقدة والشخصيات الرئيسية والثانوية، وهذا الأمر نراه بوضوح أكثر فى رواياته التاريخية الأولى.
وتاريخيًا يصور تلك الأحداث التى مرت بها مصر قبل وبعد ثورة 1952، وهو ما رأيناه فى رواية "السمان والخريف"، والتى كتبت عام 1962، وهى من الروايات الواقعية، التى انتقل فيها من الواقعية الطبيعية إلى الواقعية الوجودية، حيث سار فيها نجيب محفوظ على منوال الرواية الواقعية، التى تصور الواقع، الذى عاشه المصريون فى تلك الحقبة التاريخية، كما كان الحال فى "القاهرة الجديدة وخان الخليلى وزقاق المدق والسراب وبداية ونهاية"، فضلاً عن رواية "الطريق"، التى بحث فيها البطل صابر السيد الرحيمى عن المخلص، ولكنه لم يجده، وكأنه يناشد الله، فهى أزمة من أزمات الوجود؛ ذلك الرجل الذى يبحث فى حياته عن مجهول بعيد المنال يبدو فى نهاية الطريق أنه يبحث عن حياة فيها الإنسان ما زال إنسانًا، عن ضوء نور ينير له دروب حياته المظلمة، بل والمعتمة من الظلمة الحالكة، إنه يبحث عن والده الذى ينكره حتى فى المنام، إنه القلق الوجودى بكل أشكاله، والكينونة البشرية التى يراد لها أن تظل فى بحث دائم عن كرامة قد ضاعت، وحرية سلبت، وعدل أصبح مفتقدًا، وسلام بعيد المنال.