سلكوا دروبًا محفوفة بالمخاطر، غير عابئين بما سيواجهونه، فقد يعودون منها ومعهم الكنز الذى لهثوا خلفه أو يرجعون خاليى الوفاض أو يحملون لأهاليهم جثثًا هامدة.. إنهم "الدهابة" شباب تركوا مهنة أبائهم وأجدادهم فى رعى الغنم بعد أن جفت مراعيهم وصعب عليهم الحصول على لقمة العيش وتوفير حياة كريمة لعائلاتهم، بسبب انتشار البطالة وعدم وجود فرص عمل فألقوا بأنفسهم فى التهلكة لعل الحظ يحالفهم ويحققون أحلامهم فى الثراء عن طريق التنقيب بجبال وادى العلاقى.
ــ "بلاد الذهب"فى أقصى جنوب مصر وعلى بعد 16 كيلو مترًا من محافظة أسوان تقع وادى العلاقى وهى آخر قرية على الحدود المصرية السودانية، ويسكنها قبيلتا العبابدة والبشارية، اللذان يعملان فى مهنة الرعى وتجارة الأغنام بحكم طبيعة البيئة الصحراوية القاسية، والتى طوعوها وتعايشوا معها فى جميع مناح الحياة، حتى اكتشفوا الذهب الخام فى قلب الصحراء.
ـــ قانون الدهابةتنظم الأعراف القبلية عملية البحث عن الذهب، حيث تمنع نشوب الخلافات بين الدهابة بسبب التنقيب.وتعتبر وادى العلاقى من المحميات الطبيعية التى تضم العديد من الثروات التعدينية، حيث لم يكتشف الدهابة الذهب بها، ولكن المناجم موجودة منذ أيام الفراعنة، ويوجد لهم بصمات وآثار على المناجم والمحاجر فى المنطقة، وامتدت رحلات التنقيب على مر العصور من الرومان إلى الفاطميين، وأخيرًا الإنجليز، حيث يوجد بمناطق الذهب فى العلاقى "أم قريات"، وهو كامب كامل قديم للإنجليز يضم مبانى ومخازن للمياه ومنجم تحت الأرض، يتكون من 5 أدوار، وكل دور به سكة حديد ويحتوى الدور الأخير على مياه، وتنتشر خيام الدهابة بكل مكان بوادى العلاقى.
ـــ متحف جيولوجىيقول الشيخ عوض هدل شيخ قبيلتى البشارية والعبابدة بأسوان: إن وادى العلاقى تعد متحفًا جيولوجيًا، لأن بها جميع أنواع الخيرات، ومنها أنقى أنواع الذهب، مضيفا أن الذهب اكتشف فى السودان عام 2006 بالولايات القريبة من البحر الأحمر.ولفت الشيخ هدل أن ظهور جهاز الكشف عن الذهب، كان البداية الحقيقية لمهنة الدهابة، مؤكدًا أن المنظقة تحتوى على أجود أنواع الذهب فى العالم، حيث يصل سعر الأوقية لثلاثة آلاف دولار ويستخرج بدون إضافة كيماويات .
ـــ البدايةاكتشف الدهابة وجود الذهب فى جبال العلاقى فى عام 2005، حيث كان راعى غنم من قبيلتى العبابدة والبشارية يقوم بإعداد الشاى فى الصحراء من خلال وضع براد شاى على حجرين فى النار، لكنه وجد أن الأحجار تنصهر فى النار، فقام بغسلها وتنسيمها بالماء، وعرف بأن الأحجار هى قطع من الذهب .
ـــ التجهيز للرحلةيقوم الدهابة من أبناء قبيلتى العبابدة والبشارية فى رحلتهم إلى العلاقى بتجهيز سيارة دفع رباعى أو ربع نقل بها مجموعة من 5 إلى 7 أشخاص، ويأخذون معهم مستلزمات الخيمة التى يسكنون فيها ويطلق عليها "التاية" بلغة البشارية والعبابدة وتضم "التاية" الخيمة الزاد والزوادة التى تكفى لـ15 يومًا على الأكثر من طعام ومعلبات وعدس وفول ومكرونة وصلصة ومياه وفرش وبطاطين ومن 6 إلى 7 أسطوانات غاز وشعلة و10 جراكن مياه و2 بنزين ومولد كهرباء و2 دقاق وجهاز تكنس وجهاز جى بى ومقاطف وسلبة "الحبل " وونش ومعدات وتجهيزات لعملية الحفر.
ـــ بداية عملية التنقيبيقول الشيخ عوض "يبدأ الدهابة فى البحث عن الذهب منذ بزوغ الفجر إلى غروب الشمس وتأخد عملية التنقيب من يوم لأكثر من أسبوعين حسب "حظ" الدهابة ورزقهم، بحسب وصفه مضيفًا «يختار الدهابة المكان الذى به آثار قديمة للتنقيب وبعد تشغيل جهاز التنقيب يصدر صوتًا، إن وجد ذهب فيقوم الدهابة بحفر عشرة سنتيمترات تحت الأرض وبعدها يبدأ الحفر بالأيدى وأحيانا أخرى يصدر الجهاز أصواتًا إذا كان هناك مخلفات قديمة للمنقبين فى الماضى" .
ـــ المخاطررحلة الدهابة فى البحث عن الذهب تكون محفوفة بالكثير من المخاطر، حيث يتعرض الدهابة لمطاردة قوات حرس الحدود، ومن ناحية أخرى للدغ الثعابين والحيات والعقارب، وأخطرهم "الطريشة"، التى تنتشر بكثرة فى الصحراء، ولا ينجو من لدغتها أحد إلا بعد بتر العضو الذى قامت بلدغه، حتى لا يسرى السم فى باقى الجسم فيموت، حيث لا علاج لها فى الصحراء إلا البتر، كما قد يزورهم الموت فجأة عن طريق انهيار الصخور عليهم أثناء الحفر، فيموتون أو يدفنون أحياء، ومنهم من يموت عطشًا أويتوه فى دروب الصحراء.
-الدهابة والمجرمونأضاف الشيخ عوض هدل بأن الدهابة يواجهون خطر مطاردة قوات حرس الحدود، لأنها منطقة حدودية، ومنهم من يتم ضبطه ويقدم للمحاكمة العسكرية ومصادرة جهازه وسيارته، ومنهم من يتم مطاردته ويقتل خلال المطاردة .وأشار شيخ البشارية إلى أن الحكومة السودانية تشجع الدهابة وتاخذ 80% من التعدين العشوائى، وتحصل على مقابل التصريح وعمولة عن كل جهاز حفر ووفرت لهم مطاعم ومحطات جاز، بينما الحكومة المصرية تقوم بمطاردتهم، بالرغم من أن الذهب يفيد اقتصاد البلد ويمنع البطالة والتهريب.
ـــ العدوة .. مدينة الذهبقرية العدوة بإدفو تبعد عن مدينة أسوان حوالى 100 كيلو متر شمالًا، ويطلق عليها مدينة إنتاج الذهب، حيث انتشرت فيها الطواحين، التى تستخدم فى طحن "المرو" لاستخراج خام الذهب، ويقوم الدهابة باستيراد هذه الطواحين من الصين، والتى تصل تكلفتها من 45 ألف جنيه إلى 50 ألف جنيه.
ـــ اقتفاء الأثرتتمتع قبيلتا العبابدة والبشارية بمهارة اقتفاء الأثر، لدرجة أنهم يعرفون أثر الرجل من المرأة من المرأة الحامل وأثر الصبى من الشيخ وأثر من يحمل ثقلًا من غيره الذى لا يحمل شيئًا، كما يميزون بين أثر المريض من المعافى كما يعرفون أثر من بلغ به الجوع والعطش فيتمكنون من إدراكه قبل أن يهلك.
ـــ فصل الذهب عن الصخوربعد استخراج الأحجار يتم تجميعها وتعبئتها فى أجولة فى السيارة، ويذهب الدهابة بهذه الأجولة إلى مكان لغسل الأحجار وتنظيفها من الرمال وتسخن على النار حتى تصبح قطعة واحدة متماسكة وهى الذهب الخام ..أما إذا كان الذهب فى عروق "مرو" فيتم إجراء عملية تنسيم عينة "للمرو" وهى عبارة عن طحن المرو بعد وضعه فى طبق وبدء التنسيم بالماء، وبعد ذلك يتم التخلص من التراب، وإذا كانت العينة تحتوى على الذهب يرسو فى أسفل الطبق، لأن الذهب أثقل.وتابع الشيخ أنه بعد الحفر على عمق يستطيع أن يقف فيه الرجل يتم تركيب الونش ويوضع به البكارة وينزل الرجل على "السلبة"،ويقوم بتنظيف عروق المرو من الصخور والحجر، ويتم الفصل فى الحفرة، رفع الصخور بالمقطف ويعبأ فى شكائر، ويذهب بها إلى المطحن، وهناك من الدهابة من يقوم بإنشاء مطحن بالعلاقى، ومنهم يذهب به إلى مطاحن بالمحافظة، لافتًا إلى إنه إذا وجد ذهب صافى يتم استئناف رفع المرو من الحفرة، مضيفًا "يتم إدخال "المرو" داخل المطحن وتتم عملية فصل الذهب عن المرو عن طريق الماء والزئبق .
ـــ رحلة الثراءيقوم الدهابة من البشارية والعبابدة بعمل العصيدة، وهى عبارة عن دقيق وماء، كما يقومون بخبز العيش، حيث يقومون بدفن الخبز بعد عجنه فى الرمل، ويوضع فوق الرمل الفحم المشتعل لمدة 10 دقائق، ويقومون بعدها بإخراج الخبز، ويكون بدون أى رمل، أما قبيلة الأعقاب فتقوم بعمل خبز السناسن على الدوكة، ومنهم من يأخذ معه خروفًا أو نعجة ويقومون بالذبح والسلخ وشى اللحم على الزلط بعد إشعال الحطب تحته، ويطلقون عليه "السالات"، والباقى يقومون بتشريطه وتعليقه فى الشمس، لكى يكون صالحًا لمدة 4 أيام.
ـــ خيمة المستثمريقول محمد فتحالله عبدالرضى: إن الدهابة السودانيين يقومون ببيع الذهب من خلال مستثمر موجود "بخيمة" فى العلاقى يقوم بشراء الذهب وتحويل المال لأهالى السودانيين فى بلادهم عن طريق الموبيل، تفاديًا لمخاطر التعرض لإطلاق النار عليهم من قبل قوات حرس الحدود أو القبض عليهم ومصادرة الذهب.ويقول المهندس طارق محمود خيرى، جيولوجى على المعاش بهيئة الثروة المعدنية، إن منطقة وادى العلاقى غنية جدًا، ولم تستغل الاستغلال الأمثل حتى الآن وبها نسبة عالية من الذهب، حيث يوجد بها "جنايا" يتم استخراج الذهب منها بوزن 5 كيلو فى المرة الواحدة، مشيرًا إلى أن الدهابة تمكنوا من استخراج الذهب من أماكن لم تكن هيئة الثروة المعدنية تعلم عنها شيئًا، وبدؤوا فى تكوين ثروات، مختتما أن تجار فى الصاغة يشترون هذا الذهب ويدمغوه بأسمائهم.نقلا عن الورقي.