تعرفت على زوجى الحبيب رحمه الله فى عيد ميلاد إحدى صديقاتى المقربات، ومن أول لحظة رأيته فيها أدركت أننى سأكون له شريكة حياته، وكذلك هو، لكن واجهتنا صعوبة واحدة فى البداية، وهى أننى أكبره سنًا بعام واحد، اعترض أبى فى البداية، وكذلك أسرته، ولكن ما لبثت الأمور أن استقرت أمام إصرارنا.
سيدتى مرت فترة الخطوبة لا يعكر صفوها، سوى بعض كلمات تلقيها والدته على مسامعى فى أى مناسبة تجمعنا، وكنت أتعاضى عنها، ولا أُعير لها وزنًا من فرط حبنا، وتعاهدنا على ألا نسمح لأى شىء أن يدمر هذا الحب العظيم، وكان أكثر ما يؤلمنى هو غيابه عنى لفترات طويلة، لأنه كان ضابطًا فى القوات المسلحة، وطبيعة عمله تقتضى الغياب لفترات بعيدًا عنى.
كان كل يوم يمر على غيابه تنتابنى حالة من القلق والتوتر، إلى أن يتصل بى ويطمئننى على نفسه، إذا أتيحت له الظروف، فتعود روحى لى..
مر عامان على خطوبتنا، وكانت فترة كافيه لتجهيز ارتباطات شقة الزوجية، وتم زفافنا فى حفل أنيق وسط أسرتينا، وطبعًا والدته لم تفوت تلك المناسبة كالعادة، دون أن تذكرنى بأننى أكبر منه سنًا، وأنها لا تريد أن ترانى بعد عدة أعوام وأنا أبدو فى مظهر لا يليق بابنها، أو يظننى الناس أننى لست زوجته بل أبدو كأمه.. لا أعلم لماذا كانت هذه أول مره تنجح فيها بانتزاع فرحتى منى،.. هل لأنه حقًا لا يمكن أن يكون هذا هو الوقت المناسب لمثل تلك التلميحات؟ أم لأنى كنت وقتها أسعد إنسانه فى العالم؟
لاحظ أحمد رحمه الله ما ألم بى من ضيق وحزن، رغم أننى تحاملت على نفسى كثيرًا، حتى لا يبدو على الضيق، ولكن سقطت دموعى فى غمرة فرحتى رغمًا عنى، انتهت حفلة رفافنا، وظل كلامها حبيسًا فى صدرى، وكأنها تعمدت أن تفسد على يومًا انتظرته شوقًا منذ معرفتى بأحمد.
اعتذر لى أحمد كثيرًا وقتها، مع وعد منه بعدم تكرار ما حدث من والدته، لكنه لم يستطع أن يوفى بوعده لى، ولَم أسلم منها يومًا فى أى لقاء.
مرت حياتنا سعيدة لا يعكرها سوى لقاؤها لبضع ساعات كل أسبوع لزيارتهم، فقد أوصانى زوجى رحمه الله بهم فى غيابه وكنت على العهد معه.
رزقنا الله بابنتى سلمى بعد عام من زواجنا، وكانت سلمى لأبيها كالروح فى الجسد، كنت أراه حينما يعود من عمله لا يأخذها بين أحضانه كأى أب، بل ينام هو داخل حضنها كالطفل فى حضن أمه.
كبرت سلمى والتحقت بأول سنة فى الدراسة، ثم رزقنا الله بثانى أبنائى "أحمد"، الذى أصررت أن أسميه أحمد، حتى لا ينقطع اسمه وصوته فى غياب زوجى الحبيب.. بعد ستة أشهر من ولادة ابنى لاحظت اأنه لا ينمو بشكل طبيعى، ذهبت به لطبيب كان من أقاربنا، وصارحنى أن الطفل أحمد عنده مرض نادر سيؤدى لإعاقة حركية وسمعية.
تقبلت قضاء الله وحمدته على ما أنا به، وعلى أنه اختارنى وأحمد لهذا الابتلاء، الذى سيجازينى عن صبرى عليه خير الجزاء.
كان أحمد زوجى كثيرًا ما يبحث عن علاج لابننا، وكنا عندما نسمع عن أى طبيب متخصص أو أجنبى فى حالة ابنتا نهرع به إليه للعلاج.
ولكن إراده الله شاءت أن تسوء حالة ابنى، وأصبح يعانى من نوبات صرعية، على إثرها تركت عملى لأتفرغ لابنى، لأنه معاق إعاقة كاملة.
وأكثر ما كان يؤلمنى صراخه المستمر، فهو لا يعرف كيف يعبر عن آلمه ووجعه فيصرخ، وكان علاج أحمد فوق طاقتنا المادية، فكان والد زوجى يساعدنا وكذلك أبى، لم يصبح لنا هم فى حياتنا سوى علاج ابننا وتدبير نفقاته.
فى إحدى المرات سافر زوجى وودعنى كالعادة أنا وسلمى وأحمد الصغير بالدموع والقبلات والتمنيات أن يرانا فى خير حينما يعود، وأوصانى بأحمد، وكرر على مسامعى أنه هدية من الله، اختصنا بها، ويجب أن نشكره على نعمته، لا أعلم لماذا انقبض قلبى، مع أنه لم يذكر جديدًا، بل كان نفس ما يردده على مسامعى قبل سفره كل مرة.. انتظرت عودة زوجى أحمد من عمله، ولكنه لم يعد.
فى صباح أحد الأيام أتانى والده ووالدته وهما فى حالة هيستيرية من الحزن والبكاء والانكسار، وكان مظهرهما يغنينى عن أى كلام، احتضننى والده بقوة، ودخل مسرعًا على غرفة سلمى وأحمد، وجلس محتضنًا لهما جاهشًا بالبكاء ولم أقو على سؤاله، ولم أفق من الصدمة، سوى فى الْيَوْمَ التالى، والمنزل يملأه المعزون.
قد مات أحمد الزوج وماتت معه كل اللحظات الحلوة، مرت الأيام الأولى ووالده ووالدته غارقين فى الحزن مثلى، لا يدرى أحدنا بما حوله.
لم أصدق ما حدث وتمالكت نفسى، حتى أستطيع خدمة ابنى، الذى لم يتوقف صراخه طوال الأيام السابقة، فلم أكن فى حالة صحية تساعدنى على الاعتناء به ومتابعة جرعات دوائه.
توقعت أن يلين قلب أمه لى ولأبنائى بعد وفاة ابنها، ولكن هذا لم يحدث، بل فوجئت بها، ودون مقدمات برفع قضية لضم الأولاد لها، وأن تكون هى القيم عليهم، وقضية أخرى لتشاركنا فى معاش زوجى رحمه الله، وذلك بعد الوفاة بشهر واحد.
تحدثت مع والد زوجى وأخبرته أن هذا التصرف لا يليق، وما زال دم أحمد لم يبرد بعد، وما زالت حرقه قلبى لم تخف حزنًا عليه، ولكنى وجدته مصرًا على ما فعلت زوجته، وأنهما أولى بضم أولاد أحمد لهما، وأنهما سيدخلان أحمد الصغير مصحة علاجية لمثل حالته، وهو ما سبق ورفضه أحمد - رحمه الله - أثناء حياته.
سيدتى اختارا معى طريق المحاكم، وأنا فى ذهول مما يحدث ولا أعلم له سببًا.. فى البدايه ظننت أنهما قد يكونا خائفين من أن أتزوج بعد فترة، فأكدت لهما أننى سأعيش لأبنائى، وأننى لن أتزوج مطلقًا، وأعاد أبى تأكيده لهما، وطلب منهما أن يؤجلا قضاياهما، لحين زواجى إن حدث، ولكن هيهات أن يلين قلباهما.
إن الله يعلم ما بى ويعلم كيف أعانى من فقدان الزوج والحبيب والسند، ومن مسئولية ملقاه على عاتقى من تربيه أبنائى وعلاج صغيرى الذى يبدو أن قلبه الصغير شعر بطول غياب والده فصار يقضى يومه فى الصراخ طول الْيَوْمَ حتى أن الجيران كثيرًا ما يقابلوننى ويدعون لى بالصبر والتحمل.
لا أعلم ماذا فعلت معهما، ولا أعلم ما هو ذنبى، الذى يعاقباننى عليه، وكيف أتصرف مع من نزعت من قلبيهما الرحمة، لقد اختبرهما الله بأصعب ما يختبر به بشر - برحيل وحيدهما - وهو فى زهرة شبابه، ويحرم منه أبناؤه، ولا يكتفيان بذلك، بل يريدان حرمانى من رعاية أبنائى وحرمان أبنائى منى.
ألم يكفهما أنهما أيتام الأب، ويريدان أن يكونا كذلك بلا أم؟..ما كل هذا الغباء والحقد؟
لقد احترت ياسيدتى، فهل أبادلهما القضية بالأخرى؟ هل أتفرغ للنزاع معهما، أم ماذا أفعل؟
الرد
عزيزتى منحك الله تعالى الصبر، وأعانك على تحمل التركة الثقيلة والجميلة، التى منحك الله إياها، وهى أولادك.. فى الحقيقة موقف حماك وزوجته أمر يجافيه المنطق، ويبتعد عن الحكمة، فهما لم يراعيا حزنك والظرف الدقيق الذى تمرين به بعد وفاة والد أطفالك، ولجأوا سريعًا للمحاكم، وهو أمر آخر مستغرب، لأنهما لم يعرضا الأمر عليك فى البداية، أو على والدك، وهو ما ينم عن سوء نية مبيت لضم الأولاد إلى حضانتهما.
حاولى أن تراعى وصية زوجك فيهما، وأن تبريهما، وأن توسطى أحدًا، للتحدث معهما، وإن لم يتراجعا عن طريقهما، فليس أمامك بد من اللجوء أنت الأخرى للمحاكم، حفاظًا على حقوق أولادك فى الأساس والاحتفاظ بمعاش زوجك، الذى هو حق أصيل لهما وحدهما، وهى الدخل الثابت الذى يضمن تربيتهما وتعليمهما، كما أنه بوجود الأولاد ينتفى أى حقوق لهما فى معاش ابنهما.. تحلى بالصبر قليلًا، وإن لم يكن هناك بد من طريق المحاكم فاسلكيه، وإن كنت مكرهة حفاظًا على مستقبل أبنائك.
نقلا عن العدد الورقي.