وسط هدوء النيل والشمس الحارقة، تستقر أسرة من أربع أفراد، لا تعرف في الحياة إلا مياه النيل وصيد السمك، فتفكيرهم يختلف عن الفكر الإنساني المعتاد، لا يطمحون في المناصب أو الثروة أو تعليم، محور حياتهم يدور في إيجاد مكان يحميهم من أشعة الشمس في الصيف والأمطار في الشتاء، قلقين دائمًا من الأبحار ليلًا، فالجزيرة التي يستقر بها سمير محمد وأسرته بمركبه الصغير ليست آمنة.
سمير حامد محمد، الذي يبلغ من العمر 42 عامًا، صاحب البشرة القمحية، لا يملك في تلك الحياة إلا مركب صغير يعيش داخله مع زوجته وأطفاله، فذلك المركب هو المأوى الوحيد لتلك العائلة البسيطة، التي تعيش على حافة جزيرة الدهب في محافظة المنوفية، ولا تملك مصدر للرزق إلا السمك، ويقول رب الأسرة الذي يعمل صيادًا: "المركب ده هو بيتي وأنا معرفش حد غير مراتي وولادي في الدنيا ده، وطبعًا الصنارة، اللي على طول بتكون في أيدي عشان اصطاد، وكمان فيه الشبكة، ده بقي اللي بصطاده بيها بيكون مصدر رزقي أنا وعيالي".
يجلس في المركب الذي لا يملك غيره في تلك الحياة، وينظر إلى النيل، بنظرة طفل يحتمي في حضن والدته، خائفًا لا يملك في جيبه إلا بعض الجنيهات التي ربحها من بيع السمك في الصباح الباكر، فيوم سمير الصياد، يبدأ من الرابعة فجرًا، وينتهي في منتصف الليل، وخلال تلك الساعات يمر الصياد بمشاعر مختلفة، فتارة سعيد لأنه نجح في صيد الكثير من السمك، وتارة خائف من أمواج البحر، وتارة أخرى يفكر كيف يحمي بنته صاحبة الـ15 ربيعًا وزوجته من نظرات الغرباء أثناء استحمامهم في البحر.
"أصعب المواقف اللي بتعرض لها، هي رخصة المركب ورخصة الصيد، ورخصة الماكينة اللي بتشغل المركب، زمان كنت بدفع ثلاثة جنيه، لكن الوقت ده بقيت أدفع ثلاثة آلاف جنيه، ده غير سعر المركب اللي كان بـ700 ووصل لـ7000، وتكلفة صنارة الصيد اللي سعرها وصل 35 جنيه، وأنا في اليوم بحتاج حوالي 1000 صنارة"، كانت تلك الكلمات كافية ليعبر بها الصياد سمير عن مشاكله في البحر، والضائقة المادية التي يتعرض لها بين الحين والآخر.
وفي إحدى أركان المركب الصغير، تجلس "نعمة" زوجة الصياد، التي تبلغ من العمر 40 عامًا، ترتدي جلباب أزرق اللون، بسيط التصميم، كاشفة عن جزء من شعرها، تحاول أن توقد البوتجاز الصغير الذي وضعته في منتصف المركب، رغبة في طهى الطعام، فالساعة قاربت على الخامسة مساءً، وهذا هو الوقت الذي يتناول فيه زوجها الصياد الطعام يوميًا.
"أنا نفسي أطلع على البر، وفي نفس الوقت حياتنا كلها في البحر وسط المية والسمك وريحة الخضرة، لو طلعت أموت".. لخصت نعمة شريط حياتها في تلك الكلمات التي تحمل في ثناياها الارتباط بالبحر بكل ما يحمله داخله من المشاعر الإنسانية التي تتنوع بين هموم ودموع وابتسامة صافية من عاشق.
وسط أصوات القرآن التي ترتفع من مركب سمير الصياد، تقول زوجته:" أنا في الشتاء مش بعرف استحمى، الماية بتكون برد، أنما في الصيف بننزل المية الحمد لله، بس بنكون خايفين من نظرات الناس اللي عايشة في البيوت حوالينا".
وفي بداية المركب تجلس "أسماء" ابنه الصياد وزوجته، تبلغ من العمر 15 عامًا، ترتدي جلباب شبيه لما ترتديه والدتها، لا تفقه في هذه الحياة إلا كيفية صيد السمك، وتحضير الطعام ورعاية شقيقها الصغير في الوقت الذي يصطاد فيه والدها، وتقوم والدتها بالتجديف، ليسير القارب بهدوء، فذلك يساعد زوجها على اصطياد الأسماك بمهارة وسرعة.
"بنتي مش متعلمة، ولا فكرت في يوم ادخلها مدرسة، هتشتغل أيه في الآخر، أكيد مصيرها أنها تتجوز صياد وتعيش في مركب زي ما حصل معايا لما كنت في سنها"، لخصت بذلك نعمة حياة طفلتها التي حكم عليها بعدم مغادرة المركبة إلا زوجة، تنتقل للعيش في مركب آخر مع زوجها، فتلك هي العادات والتقاليد التي وضعتها تلك العائلة التي تعيش وسط البحر لنفسها.