جالسون ينظرون إلى الراكبين، ممسكين بأيديهم مكنسة يدوية متهالكة، وفي أعينهم نظرة حرمان وانكسار، لا يملكون إلا الدعاء إلى الله أن يجدوا من يعطف عليهم، فحاجتهم إلى المال، لا تجعل عقولهم تتوقف عن التفكير.يجلس محمد متولي، الذي يظهر على وجهه علامات الشقاء والتعب في سكينة، يدقق النظر في حقائب كل من يمر أمامه، فحقائب تحمل طعام، وغيرها تحمل ملابس، يدور في ذهنه حال أطفاله وزوجته، التي كان آخر حوار بينهم في الصباح، عندما قالت له زوجته التي لم تكمل تعليمها الثانوي وصاحبة الـ40 عامًا: "يا محمد أنا عارفة أنك مريض، بس لازم تشوف شغل تاني، العيال من قلة الأكل بيتعبوا، ده غير مصاريف المدارس وغيره، شغلانة الزبال ده مش هتأكلنا عيش"، كانت تلك الكلمات خناجر مسمومة في قلب محمد الذي يعمل عامل نظافة في هيئة مترو الأنفاق، ويتقاضى ألف جنيه مقابل العمل 10 ساعات يوميًا.ينظر "محمد" إلى يده التي ظهر عليها علامات التشقق من كثرة العمل وإزالة القمامة التي يلقيها ركاب مترو الأنفاق من أطفال، ويتذكر سنوات شبابه التي قضاها في تلك الوظيفة منذ أن كان في الخامسة والعشرين من عمره، ويقول: "اتجوزت لما كنت 20 سنة، ومكنتش لاقي شغل ولما لقيت إعلان عشان وظيفة عامل نظافة في المترو، قدمت واشتغلت على طول، وكان عندي أمل أكفي عيالي لكن زي ما أنا عايش في منطقة أمبابة وعيالي مش لاقين هدوم محترمة يلبسوها، ولا أكل نضيف يأكلوه، ومن كتر الهم، جالي المرض الوحش، وبيتعالج منه".بدأت حبات العرق تتساقط من جبين "محمد"، فالوقوف لساعات طويلة تحت أشعة الشمس، يؤثر على درجة حرارته، فيروي موقف سابق تعرض له: "مرة من كتر الوقوف في الشمس والشغل، جالي ضربة شمس، وقعدت أسبوع في البيت، وبالرغم من أني قدمت إجازة مرضي لما رجعت الشغل، اتخصملي".وتحت درجات سلم محطة منشية الصدر، تستقر سكينة أحمد، المرأة ذات الجسم الممتلئ والبشرة البيضاء، تحتمي من أشعة الشمس الحارقة، التي كادت تقتلها في يوم من الأيام، وتقول: "عندي 5 أولاد، أكبر واحد فيهم 15 سنة، أصل أنا اتجوزت وأنا كبيرة في السن، وجوزي على أد حاله، فنزلت اشتغل عاملة نظافة في المترو والمرتب مش بيكفي عيالي وجوزي".تبدأ "سكينة" التي ترتدي الملابس الخاصة بعاملات النظافة في السابعة صباحًا إلى الرابعة مساءً، ولبعد منزلها عن مكان عملها، تضطر للاستيقاظ يوميًا في الرابعة فجرًا، وتروي: "بصحى 4 الفجر، وبحضر أكل الولاد وبعدها اللبس واركب (توك توك) لحد الموقف في المرج، ومن الموقف باخد عربية للمترو، أركب المترو لحد لما أوصل المحطة اللي شغالة فيها، المشوار تعب عليا عشان عندي الضغط والسكر، لكن الحمد لله، المهم أعرف أبسط عيالي".تنظر "سكينة" وفي عينيها دموع قاربت على الانهيار، إلى أحد الأكياس التي يحملها راكب من ركاب الخط الأول لمترو الأنفاق، فالكيس يحتوي على أنواع طعام فاخرة، وتقول: "أنا نفسى أكون واحدة من الناس ده، أجيب أكل نضيف لعيالي بدل ما بيستنوا حد يعطف عليهم بجنيه أو يديهم أكل"."معلش يا بيه قوم ثواني انضف الزبالة اللي تحت رجلك"، تلك هي الكلمات التي قالها مصطفى عبد التواب، الشاب صاحب الـ26 عامًا، لأحد الجالسين في محطة عزبة النخل، بالرغم من الأسلوب الفظ الذي يتعامل به بعض الركاب مع عمال النظافة، إلا أن مصطفى اعتاد أن يعامل من حوله باحترام، ويقول: "في ناس كتير بتتعامل معانا على أننا أقل منهم، لكن أنا بعامل كل الناس باحترام، والحمد لله كل المواقف بتعدي على خير".يعمل محمد الذي يظهر عليه علامات الإرهاق من كثرة التفكير، عامل نظافة منذ 3 سنوات، بعد أن أنهى دراسته في المدرسة الثانوي، ولم يكن باستطاعته أن يلتحق بالجامعة، فأسرته المكونة من 8 أفراد، تجعل والده عاجرًا عن توفير حياة كريمة لهم، ولذلك قرر محمد أن يبحث عن فرصة عمل، فبدأ في الميكانيكا، ومن ثم التحق للعمل كعامل نظافة في محطات المترو، فيقول: "أحنا 8 في البيت وأبويا عامل على أد حاله في شركة، مرتبه 1200 جنيه هيصرف علينا ازاى، عشان كده نزلت اشتغل زبال في المترو".بالرغم من طبيعة عمل "محمد" الشاقة وملابسه المتهالكة، إلا أنه يعتني بنظافته الشخصية، فيروي: "أنا مقدرش يكون ريحتي وحشة، اللي بقدر عليه بعمله، أنما هدوم الشغل غصب عني بتكون مش نضيفة، ربنا يعلم أنا بحافظ عليها ازاى عشان مشوفش نظرة اشفاق أو قرف في عيون الركاب من شغلي أو لبسي"
كتب : منار محمد