في إحدي لياليه المظلمة، انفصل عن واقعه، وأخذ يعبث بصندوق ذكرياته "أني كمصباح الطريق.. أبكي.. ولا أحد يرى دمعاتي".. فتتساقط دموعه التي يسكنها الألم على ذلك الحبر، فتمحو كلماته، ليترك القلم وينفث دخان سجارته، يفكر في زوجته التي تركته وحيدًا، وشقيقته التي انتحرت بسبب الحب، فيتمسك بالقلم مرة أخرى بكل قوته، وينظر حوله، فهو وحيدًا في بيتًا، لا تسكنه إلا الذكريات.. " كاللص يبحث عن طريق نجاة.. فلا يرى في الظل غير جماجم الأموات".
تراقصات أشعاره على نبضات قلوب العاشقين، فكلماته أشعلت الدماء في الوريد، فظن البعض أن تلك الكلمات خرجت من عاشق، يعيش مع حبيبته كل سطور الحب والغرام، وفي الحقيقة أنه كان يعيش على أطلال زوجته، فاختزل حبه لها في كلمات يحيا الحب في قلوب الأخرين، أنه نزار بن توفيق القباني.
خطف الموت فرحة نزار قباني، منذ أن كان طفلًا، يعبث في بحرًا من الألوان التي كان يعشقها، ويرسم بها حياته، فاختطف وصال شقيقته، التي قررت أن ترحل عن الحياة، بعد أن رفضت عائلتها زواجها من حبيبها، وبالرغم من صغر سنه إلا أن كل لحظة من لحظات موت شقيقه، حفرت في حائط عقله، فكتب في شعره " إن الحبّ في العالم العربي سجين وأنا أريد تحريره".
دق الحزن قلب نزار قباني للمرة الثانية، فهز الوجع عرش دقاته، فلم يستطيع التعبير عن الرياح التي اقتلعت فرحته بابنه الأول الذي كان يحلم أن يراه طبيبًا، فاختزل حزنه بفقدان توفيق ابنه الذي كان طالبًا بكلية الطب، جامعة القاهرة في السنة الخامسة عام 1973.
كان توفيق هو ثمرة زواج نزار من ابنة خاله "زهراء آقبيق"، وتعرض لأزمة صحية، فسافر في رحلة علاج إلى لندن وعاد إلى دمشق محمولًا في نعش، وهو في ربيعه الـ22.
خصص نزار قباني قصيدة يرثي بها توفيق، عبر فيها عن الحزن الذي سكن قلبه بعد أن تعافي من حزنه على شقيقته: " مكسرة كجفون أبيك هي الكلمات.. ومقصوصة كجناح أبيك، هي المفردات.. وماذا سأكتب يا بني؟.. وموتك ألغى جميع اللغات".
بعد أعوام من موت ابنه الأكبر، زار الموت قلب نزار للمرة الثالثة، عندما اختطف زوجته، فأخذ يدور في الحياة، كالفرس التائه الذي فقد صاحبه، ولم يعد يعرف ماذا يفعل في تلك الحياة.
وبشعرها الأسود الطويل وعينيها اللامعة، وقفت بلقيس الراوي، التي تحمل الجنسية العراقية وتسكن أسرتها في حي الأعظيمة ببغداد، أمام الشاعر السوري الكبير نزار، قالتقت الأعين ونقل القلب همسات الحب، ليقع نزار في حبها من النظرة الأولى، في حفل استقبال بسيط بإحدى السفارات العربية في بيروت.
بعد أن وقع في حبها، ظل يلاحقها قرابة الـ7 سنوات، رفضت خلالهم بلقيس العديد من الذين وقعوا في حبها، وكانت قصة حبهم كالشباب الذي ألتقى بالشيب، فقد كانت بلقيس في الـ23 من عمرها، أما عن نزار فكان قد أتم عامه الـ40.
رفضت عائلة بلقيس زواجها من نزار، وظل أيامًا يعيش بين كلمات الفقدان والحرمان من الحب، إلى أن جاءت الدعوة التي تلقاها نزار، ليشارك في مهرجان الشعر العربي، الذي أقيم عام 1969 في بغداد.
" كان عندي هنا أميرة حب.. ثم ضاعت أميرتي الحسناءُ".. تلك هي القصيدة التي ألقاها نزار في مهرجان الشعر العربي، طالبًا اللجوء الغرامي، فنقلت القصة إلى الرئيس العراقي أحمد حسن البكر، الذي أرسل بدوره إلى وزير الشباب الشاعر شفيق الكمالي ووكيل وزارة الخارجية، وتم زواج نزار وبلقيس عام 1969.
عشر سنوات من الحب والغزل ومعاني الغرام، عاشتهم بلقيس مع نزار، وكان ثمرة ذلك الحب عمر وزينب، ليطل عام 1981، بظلاله السوداء على نزار، فذلك هو العام الذي قرر فيه الموت أن يزو قباني مرة أخرى، ولكن تلك المرة، ليخطف معشوقته بلقيس.
بدأ يوم الخامس والعشرين من عام 1981، هادئًا، استيقظت بلقيس على أبيات الشعر التي تحيا عليها منذ أن تزوجت بـ"نزار"، ليذهب كل منهم إلى عمله، بعد تركا الحياة في لندن وانتقلا للعيش في بيروت.
ذهبت بلقيس إلى عملها في السفارة العراقية، وتوجه نزار إلى مكتبه بشارع الحمراء، بعد دقائق من دخوله مكتبه، سمع صوت إنفجار شديد، فارتعش قلبه، ليتلقى خبر موت حبيبته بلقيس في انفجار استهدف السفارة، فأخذ قلمه وجلس منعزلًا، ينسج من حزنه أبيات شعر " حبيبتي.. قتلت بلقيس.. يا عطرًا بذاكرتي.. قتلوك في بيروت، مثل أي غزالةٍ.. من بعدما قتلوا الكلام.. لكن على العرب السلام"، ليعيش بعدها 15 عامًا يتنقل بين باريس وجنيف، إلى أن استقرت سفينته في لندن، ليلقى ربه عام 1998، وهو في عامه الـ75.