لا شيء يدخل الحزن والشعور بالمرارة، على نفوس أهالي مدينة القدس، كسماعهم كلمة "إلعاد"، فهذه الجمعية الاستيطانية، التي تسللت بين بيوتهم وأراضيهم، وتحت مدينتهم المقدسة، وكثر ذكرها في الأعوام القليلة الماضية، هي واحدة من الأدوات الإسرائيلية البارزة اليوم في تسريع عملية تغيير طابع المدينة وتهويدها.
وورد في أوراق اعتمادها في مُسجِّل الجمعيات الإسرائيلي الأهداف التالية: "تعزيز العلاقة اليهودية بالقدس عبر الأجيال، من خلال الجولات، والإرشاد، والإسكان، وإصدار مواد ترويجية"،واختارت الجمعية لذاتها اسماً يناسب هذه الأهداف، وهو "إلعاد".
وفي ذلك إشارة إلى الاعتقاد اليهودي بأن النبي داود أسس في القدس، وتحديداً على تلة جنوب المسجد الأقصى، "عاصمةً دينيةً وروحانيةً للشعب اليهودي"، قبل 3 آلاف عام، كما يذكر موقع الجمعية الإلكتروني.
وتماشياً مع هذه الرؤية، تدير الجمعية اليوم موقعاً أثرياً مهماً جنوبي الأقصى، في حي وادي حلوة في سلوان، يُسمى "عير دافيد"، أو بالعربية "مدينة داود"، وهو المكان الأبرز الذي انطلقت منه نشاطات الجمعية وحفرياتها الأثرية، ومن خلاله يتم ترويج دعايتها وأجندتها التهويدية.
-مؤسس الجمعية
والوجه البارز والمتحرك الأساسي في إدارة الجمعية، هو المستوطن "دافيد باري" المولود عام 1953 لعائلة يهودية ذات أصول بولندية.
وبدأ باري فور خروجه من الجيش في العام 1990، طريقه في خدمة الاستيطان والتهويد في القدس.
في البداية، تطوع في جمعية "عطيرت كوهنيم" الاستيطانية، وكان مُعلماً في إحدى مدارسها الدينية في البلدة القديمة للقدس.
وبعد ذلك، تفرغ باري لتأسيس "إلعاد"، والتي تحولت إلى ذراعٍ ضخمٍ وفعالٍ للسياسات الإسرائيلية التهويدية في القدس.
وتقديراً على جهوده في إدارة وتطوير هذه الجمعية ونشاطاتها، مُنِحَ باري في مايو الماضي، جائزة "الإنجاز على مساهمته المميزة للمجتمع"، وذلك خلال الاحتفالات بالذكرى 69 لتأسيس دولة إسرائيل، وبالذكرى الخمسين لاحتلالها شرقي القدس.
وفي معرض تفسيرهم لاختيار باري لنيل هذه الجائزة، قال المشرفون عليها إن باري "بادر وأقام وقاد العمل المبارك الذي حوّل مدينة داود لموقع أثري وتربوي وسياحي وطني وعالمي من الدرجة الأولى".
وأضافوا، إنه "تقديراً لجهوده ومساهمته للوطن في تأسيس هذا المشروع الوطني، مُنح باري هذه الجائزة في ذكرى 50 عاماً على توحيد القدس".
-مصادر تمويلها
ولجمعية "إلعاد" ميزانيات ضخمة، وتوصف بأنها إحدى أغنى الجمعيات غير الحكومية الإسرائيلية.
وبحسب تقرير لصحيفة هآرتس في مارس 2016، فإن الجمعية تلقت بين العامين 2006 و2013 ما يقارب 450 مليون شيكل (125 مليون دولار)، أغلبها من أموال التبرعات اليهودية وغير اليهودية من خارج إسرائيل.
إضافة إلى ذلك، يشير ذات التقرير بأن الجهات الضريبية الإسرائيلية تغض الطرف عن ميزانيات "إلعاد" ومصادر تمويلها، وأن الأخيرة تقدّم تقارير مالية تحوي مصادر مجهولة الهوية، بعكس ما يفرضه القانون.
فعلى سبيل من بين الـ 450 مليون شيكل المذكورة أعلاه، هناك 275 مليون شيكل لا يُعرف بالضبط مصدرها، لكونها تُحَوّل للجمعية من شركات مسجّلة في المناطق المصنفة عالمياً مناطق "ملاذ ضريبي"، والتي يمكن حسب قوانينها تسجيل الجمعيات والشركات بلا ملاحقات ضريبية تذكر، مثل جزر البهاما.
عمل الجمعية ونشاطها
تعتمد الجمعية مسارين أساسيين في تحقيق أهدافها: أولاً، الاستيلاء على العقارات الفلسطينية في القدس وإسكانها بالمستوطنين، في محاولة لتحقيق غالبية يهودية وطرد السكان الفلسطينيين.
وثانياً، السيطرة على المواقع التاريخية الأثرية، وخلق رواية صهيونية حولها، وكل ما يتصل بذلك من عمليات الدعاية المحلية والعالمية والإرشاد السياحي.
أما ميدان نشاطها المركزي فهو حي وادي حلوة، أحد أحياء بلدة سلوان، ويبعد عن سور البلدة القديمة وسور المسجد الأقصى جنوباً ما يقارب 30 متراً.
ففي ذلك الحيّ، تدور معظم أحداث الرواية التوراتية حول القدس، ومن هنا يأتي استهدافه المكثف من قبل "إلعاد".
-العقارات والبؤر الاستيطانية
تسيطر الجمعية على العقارات الفلسطينية في قلب حي وادي حلوة وتحوّلها إلى بؤر استيطانية بطرق عدة.
وبحسب تقرير للجمعية الأثرية الإسرائيلية "عميك شافيه" للعام 2013، كانت الطريقة الأبرز والأكثر استخداماً خلال فترة التسعينات هي الاستفادة من قانون أملاك الغائبين الإسرائيلي، والذي يقضي بتحويل أملاك الفلسطينيين غير المقيمين في فلسطين، إلى جسم إسرائيلي يسمى "حارس أملاك الغائبين"، والذي بدوره يملك "الحق" بالتصرف فيها.
وبفضل علاقاتها المتشعبة والقريبة من أذرع حكومة الاحتلال، يسهل على "إلعاد" شراء تلك العقارات فيما بعد من حارس أملاك الغائبين، عادةً بمبالغ زهيدة للغاية.
وقد كان باري، مؤسس الجمعية، يساهم بنفسه في البحث عن البيوت التي يعيش مُلاكها خارج فلسطين، ويُبلّغ عنها حارس أملاك الغائبين، حتى تصل في نهاية المطاف إلى جمعيته، وتتحوّل بؤرةً استيطانيةً.
في إحدى المرات مثلاً، تنكر باري بصفته مرشداً سياحياً ليتقرب من السكان في سلوان، وليتمكّن لاحقاً من الدخول إلى أحد البيوت ومعاينته عن قرب والحصول على معلومات عن ملاكه.
وبهذه الطريقة، استولت "إلعاد"، على أول عقار فلسطيني في سلوان، وذلك في أكتوبر من العام 1991، عن طريق التبليغ عنه لحارس أملاك الغائبين، ومن ثم شرائه منه بثمن زهيد.
أما الطرق الأخرى للاستيلاء على عقارات الفلسطينيين وتحويلها إلى بؤر استيطانية، والتي استخدمت لاحقاً، فتشمل تزوير أوراق الملكية، أو شراء تلك العقارات بواسطة شركات أجنبية مسجلة في الخارج، أو سماسرة محليين.
وبحسب الباحث الميداني المتخصص في شؤون الاستيطان، أحمد صُب لبن، فإن "إلعاد" تسيطر اليوم على ما يقارب 70 بؤرة استيطانية في قلب الأحياء الفلسطينية، غالبيتها تقع في حيّ وادي حلوة في سلوان، جنوب المسجد الأقصى.
-المواقع الأثرية
نجحت "إلعاد" على مدار سنوات عملها الثلاثين، وبطرق ملتوية، وبفضل شبكة علاقاتها الممتدة داحل أروقة الوزارات الإسرائيلية، في الاستئثار بالسيطرة على أهم ثلاثة مواقع أثرية موجودة في وادي حلوة، وبالقرب من المسجد الأقصى، واستغلالها لبث الرواية الإسرائيلية أمام المستوطنين والسياح على حدّ سواء.
ومن أهم تلك المواقع ما يُعرف اليوم بمدينة داود "عير دافيد"، التي تقع في أقصى شمال وادي حلوة/ سلوان، وتصل مساحته إلى 24 دونماً (الدونم ألف متر مربع)، تشمل بركة سلوان التاريخية، وآثار وأنفاق تاريخية.
ويتبع المكان الأثري المسمى "مدينة داود" لإدارة سلطة الطبيعة والحدائق الإسرائيلية، إلا إن "إلعاد" حصلت على إدارة المكان بالمقاولة منذ العام 1997 حتى يومنا هذا، حتى أصبح الموقع الأثري مرتبطاً بإلعاد ارتباطاً وثيقاً، بل إن شعار "إلعاد" هو ذاته - مع فروقات بسيطة - شعار موقع "مدينة داود".
وتمتد يد "إلعاد" إلى الجهة المقابلة لـ "مدينة داود"، على بعد أقل من 10 أمتار، حيث تقع ساحة وادي حلوة، والمعروفة إسرائيلياً باسم "موقف جفعاتي"، وهي موقع تجري فيه الجمعية حفريات أثرية منذ العام 2007، وتخطط في السنوات القليلة القادمة لبناء مركز استيطاني سياحي ضخم فوقه.
أما الموقع الثالث الذي تسيطر الجمعية عليه منذ 2014، فهو منطقة القصور الأموية الملاصقة للمسجد الأقصى وحائط البراق، والتي تُعرف إسرائيلياً باسم "حديقة دفيدسون".
وتستخدم "إلعاد" هذه المناطق الأثرية كنقاط جذب سياحية واستيطانية تروّج من خلالها للرواية اليهودية حول المدينة.
فمثلاً، تخطط "إلعاد" لبناء مركز زوّار استيطاني سياحي ضخم فوق ساحة وادي حلوة (موقف جفعاتي)، يضم 7 طوابق فيها قاعات دراسية ومقاهي ومعارض، كلّها تحمل ذات الهدف: ربط القدس بالتاريخ اليهودي.
كما عمدت "إلعاد" في السنوات الأخيرة على تكثيف الإعلانات التي تستهدف السياح، وتنظم فعاليات مختلفة موسيقية وترفيهية لجذبهم لزيارة هذه المواقع الأثرية، واصطحابهم في جولات إرشادية، وهو ما يسميه صب لبن "ديزني لاند المستوطنين".
مثلاً، انتشرت في القدس خلال أشهر الصيف دعاية تحمل الشعار "يوجد مياه في القدس"، في إشارة لجذب السياح والعائلات الإسرائيلية لزيارة بركة سلوان التاريخية الموجودة داخل الموقع الأثري "مدينة داود"، بدلاً من البحث عن المياه في المدن الساحلية والشواطئ.