ما أن أعلن رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني قراره بإقامة استفتاء على استقلال الإقليم عن دولة العراق؛ حتى بدأت الهجمات تنهال على هذا القرار يمينًا وشمالاً، ومن جميع الأطراف بمن فيهم إيران.
في الواقع؛ كان البارزاني يتوقع هذه الهجمات لأنه يعلم أن استقلال كردستان لن يكون شأنا داخليا عراقيا فقط، بل سيؤثر على كل المنطقة، ولربما كان هدف البارزاني منذ البداية التأثير والضغط على الجميع كي يلتفتوا إلى حل المسألة الكردية.
لا يمكن البحث في موضوع استقلال كردستان العراق وتأثيره على إيران دون التطرق للوضع الداخلي للمجتمع الإيراني.
فالمجتمع الإيراني يتشكل عمليًا من عدة قوميات، أشهرها الفرس والأتراك الأذريون والقاجار والعرب والأكراد والسيستانيون والبلوش والتركمان والغيلك والمازندرانيون.
وقبل نجاح الثورة الإيرانية عام 1979؛ حاول شاه إيران استغلال القومية الإيرانية لتوحيد البلاد في وقت كان إفيه حساس التوجه القومي يطغى على القوميات المختلفة في كل المنطقة، وواجه الشاه مشاكل عديدة مع القوميات المختلفة وخاصة الكردية والعربية، بسبب تأثير موجة الدعوات القومية في المنطقة عليهم.
كانت سياسة الشاه تقضي بالتفرقة بين الأكراد فأحدث صراعات داخلية بين الأكراد ودعم مجموعات منهم ضد مجموعات أخرى ليستطيع السيطرة عليهم، واستغل أحيانا أكراد منطقة كردستان العراق ،الذين كانوا على وفاق مع إيران، ضد الحكومة المركزية ببلدهم، وأجج الصراع الكردي العربي مقابل محاولات العراق التأثير على العرب في إيران.
ورغم أن بعض الأكراد -وخاصة المنتمين إلى الأحزاب اليسارية والشيوعية- حاولوا إثارة الشغب والانفصال عن إيران، مستغلين ظروف بداية الثورة والحرب العراقية الإيرانية؛ فإن إيران استطاعت إرضاخ هؤلاء بالقوة تارة وبالمفاوضات تارة أخرى.
استمرت علاقات أكراد العراق بإيران كما كانت قبل الثورة، واستغلتها إيران لتجعل القضية الكردية جرحا نازفا باستمرار في ظهر العراق على عهد صدام حسين، ولتحسّن علاقاتها بأكرد إيران.
وبما أن ظروف أكراد إيران كانت أفضل بكثير من ظروف أكراد باقي الدول الذين واجهوا أحيانا مشكلة عدم إعطائهم الهوية أو التمييز القومي باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية؛ فإن موضوع الانفصال أو التمرد ضد الحكومة المركزية بات أمراً منسيا في إيران لعدة عقود.
لا يتمركز كرد إيران في منطقة واحدة بل هم منتشرون في عدة مناطق تمتد من غرب إيران إلى شمال وجنوب البلاد، ولكن أكثر من نصفهم يسكنون بالترتيب في محافظات كرمانشاه وكردستان وأذربيجان الغربية وإيلام، ويصل عددهم حسب الإحصاءات غير الرسمية إلى ما يزيد على خمسة ملايين نسمة.
وقد أدت سياسة التركز الإداري في البلاد والمشاكل التي تعاني منها المناطق الحدودية، وخاصة تلك التي دمرتها الحرب الإيرانية العراقية؛ إلى إيجاد نوع من الحرمان الاقتصادي في معظم المحافظات الحدودية ذات الوجود الكردي مثل كرمانشاه وكردستان إيران.
وقاد هذا الأمر إلى هجرة العديد من أبناء هذه المحافظات إلى مناطق أخرى داخل البلاد أو إلى إقليم كردستان العراق، وأدى ذلك إلى الامتزاج الفكري والسياسي بين قسم من أكراد إيران وأكراد العراق.
وقد تحول الحصار الاقتصادي الذي فُرض على إيران إلى فرصة بالنسبة للأكراد، حيث إن التبادل التجاري بين إقليم كردستان العراق وإيران بلغ سبعة مليارات دولار بشكل رسمي، وما يعادل هذا المبلغ عبر تهريب البضائع بين البلدين، واستغلت إيران منفذ إقليم كردستان العراق للإفلات من العقوبات الاقتصادية.
في ظل هذه الظروف تطورت العلاقات الإيرانية مع إقليم كردستان العراق بشكل ملحوظ فأضحت ممتازة جدا اقتصاديا سياسيا وعسكريا، وقامت طهران بتقديم دعم لوجيستي عسكري وتدريب مكثف لقوات البشمركة لمواجهة تنظيم داعش بعد أن احتل الموصل عام 2014، حسبما صرح به البارزاني في عدة مقابلات.
وخلال السنتين الأخيرتين؛ بدأ التوتر يسود علاقات إيران بقيادة كردستان العراق بسبب تحركات بعض الانفصاليين من معارضي إيران الأكراد بهذه المنطقة، وقيامهم بعدة هجمات في مناطق ومدن حدودية. وقد اتهمت إيرانُ السعوديةَ بتمويل وتحريك هذه المجموعات عبر قنصليتها في أربيل بكردستان العراق.
وإزدادت هذه العلاقات توترا إثر مهاجمة مجموعتين من "داعش" مبنى البرلمان الإيراني وضريح الإمام الخميني في طهران، وكشفت التحقيقات أن بعض هذه العناصر كانوا من الأكراد الإيرانيين الذين تدربوا والتحقوا بداعش عابرين إقليم كردستان العراق، حيث تلقوا هناك الأموال والأسلحة والمعدات.
مخاطر الانفصال على إيران
ما هي التهديدات التي تواجه إيران من الاستفتاء واستقلال كردستان العراق؟ رغم أن الأكراد يُعتبرون قومية إيرانية أصيلة، وأن الإيرانيين متأكدون من أن أكراد بلدهم يقفون في آخر الصف المطالب بالانفصال مقارنة بأكراد تركيا وسوريا؛ فإن موضوع انفصال كردستان العراق يمكن أن يحرك بعض انفصاليي الأكراد داخل إيران ويثير مشاكل تهدد استقرارها، خاصة أن أكرادها منتشرون في كل البلاد.
كما أن هناك قوميات أخرى قد تتأثر باستقلال كردستان العراق "مثل العرب والبلوش والأذريين"، فتطالب بالانفصال وتهدد وحدة الأراضي الإيرانية.
وأضاف إلى ذلك تخوف طهران من النفوذ الإسرائيلي والسعودي في كردستان، الذي أضحى أحد أهم الأخطار التي تواجه الأمن القومي الإيراني، حيث إن إيران واجهت عدة حملات وصفتها بالإرهابية، وزعمت أنها كانت جميعها منطلقة من كردستان العراق.
إن تخوف إيران من استقلال كردستان العراق مخاوفه من تحول هذه المنطقة إلى بؤرة نفوذ أقوى لأعدائها، مما سيشكل تهديداً مباشراً لأمنها القومي يضاف إلى عدة مشاريع أميركية إسرائيلية لتجزئة المنطقة إلى دول متصارعة، وهو ما سيؤمن الاستقرار لإسرائيل.
ويمكن أن نشير هنا إلى ما يُعرف بخطة برنارد لويس أو خطة "حدود الدم" التي نشرتها مجلة "ذا أتلانتيك" الأميركية، وهناك تخوف كبير من أن مشروع تأسيس كردستان العراق سيشكل الأرضية لتطبيق الخطة الأميركية لتجزئة المنطقة، وعلى هذا الأساس فإن الإيرانيين يقفون بكل ثقلهم ضد نجاح هذا المشروع.
والآن؛ ما هي خيارات إيران أمام استقلال كردستان العراق؟ حسبما تم إعلانه من قبل المسؤولين السياسيين والعسكريين والأمنيين الإيرانيين؛ فإن طهران تعارض انفصال كردستان عن العراق ومستعدة للتدخل اقتصادياً وسياسياً وحتى عسكرياً.
أما إذا قام الأكراد بالانفصال عن العراق؛ فإن أول ما ستفعله إيران هو قطع جميع علاقاتها الاقتصادية مع إقليمهم، وإغلاق الحدود بالتنسيق مع تركيا والحكومة المركزية ببغداد لتصبح الدولة الجديدة معزولة عملياً عن العالم.
تحجيم الدور الإيراني في اليمن
وأضافت مجلة "ذا أتلانتيك" أن استفتاء كردستان جاء لتحجيم إيران حيث تبدو اليوم هدفاً لتحرك دولي وعربي، يسعى إلى حصار الدور الإيراني في اليمن ،الوقائع تثبت إلى أي مدى تورط النظام الإيراني في إيذاء اليمنيين وفي إطالة أمد الحرب في هذا البلد، وإغراقه في الفوضى، عبر الاستمرار في دعم "الحوثيين" ذراعه الطائفي، والاستعراض الوقح لهذا الدور الذي ينتهك كل الأعراف والتقاليد الدبلوماسية والقواعد المعتبرة في العلاقات الدولية.
في الواقع لا يندرج النشاط الإيراني في إثارة الفوضى الطائفية سرياً، هذا النشاط من تورط مادي مباشر في التسليح، فطهران تتباهى بدعم أذرعتها، وتتباها بما تقدمه من دعم لنظام بشار الأسد، وبدورها في هدم المدن السورية وتشريد الملايين من أهلها.
علي خامنئ نفسه اعتبر أن وجود قواته في سورية منع اندلاع القتال في الأراضي الإيرانية، وحينما تمكن الحوثيون من إسقاط صنعاء في 21 سبتمبر 2014 بدعم من الجيش الموالي للمخلوع صالح اعتبر النظام الإيراني أن عاصمة عربية رابعة وقعت تحت النفوذ الإيراني.
ليست الأسلحة وحدها من يشكل أحد مظاهر الخطر الذي تشكله إيران على أمن اليمن واستقراره وعلى أمن واستقرار المنطقة، ولكن أيضاً هذا الكيان الحوثي المدعوم من إيران، والذي سيظل مصدر تهديد حقيقي لليمنيين إلى أن يتم اجتثاثه عبر تقويض الأرضية المادية التي يقف عليها، من أسلحة وبنى اقتصادية، والتجريم الدستوري لنشاطها الطائفي في اليمن.