حين تراها تجدها تشع وقارا وهيبة، وتزيد الطاقة الإيجابية من حولك في المكان، فتجعلك تحتار في أمرها هل تقترب منها ليزداد نورها في عينيك، أم تبتعد رهبة من الثقة التي تملأ قسمات وجهها وحركاتها البسيطة العادية، إنها من استحقت لقب "السيدة الأولى"، ليس لزواجها من الرئيس الراحل محمد أنور السادات فقط، ولكن لجهودها العظيمة التي كانت وستظل خير معين للمرأة في المجتمع المصري، إنها.. جيهان السادات..
وفي ذكرى انتصارات أكتوبر، تنشر "أهل مصر"، حوارًا مسجلًا مع جيهان السادات، تتحدث فيه عن كواليس الحرب، وذكرياتها مع الرئيس الراحل بطل النصر، محمد أنور السادات.
ولدت ونشأت جيهان صفوت رءوف، الشهيرة بـ"جيهان السادات" في حي منيل الروضة عام 1933، وهي من مواليد برج العذراء، كان والدها يعمل في مصر ويحمل الجنسية البريطانية، ووالدتها بريطانية الجنسية تعيش في مصر، وكان لها شقيق واحد وشقيقتان من الفتيات، وترتيبها هو الثالث بينهم، وكانت جيهان السادات تعشق العلم والقراءة منذ الصغر، وكانت تحب الإطلاع ولا تترك كتابا إلا وقرأته قدر المستطاع، ولكن لم يكن يسمح لها بكثير من الكتب أثناء الدراسة لهذا كانت تنتظر العطلة لتذهب في زيارة عمتها في محافظة السويس وتقرا ما تستطيع الحصول عليه.
وتقول جيهان السادات إنها كانت تجيد الاستماع وتحب التأمل في سن صغيرة، وتذكر ان خيالها كان واسعا وخصبا حتى فكرت كثيرا في التأليف منذ الصغر، ولكن انشغلت عن هذه الأحلام بسبب القصص، التي كانت تسمعها من زوج عمتها الذي يعمل طيارا بالجيش المصري عن أنور السادات صديقه، وكيف أنه يحمل كل صفات البطولة والإقدام، وأصبح يداعب خيالها هذه الشخصية التي تسمع عنها حتى وقعت في غرامها قبل أن تقابله، ومن هنا بدأت قصة حبها للسادات قبل أن تراه.
حلم اللقاء
وتؤكد السيدة جيهان السادات، أن حلم اللقاء بـ "أنور السادات" كان لا يفارق مخيلتها احيانا كثيرة، حتى تحقق الأمر في منزل عمتها بعد خروج السادات من معقله ومروره بأزمة وقت اغتيال أمين عثمان وزير المالية، وهو الحادث الذي تسبب في مرور السادات بضائقة كبيرة في عمله وحياته كلها، ولكن كان اللقاء بينهما بارقة أمل في ظلام ليل طويل للطرفين، وكان أنور السادات لا يتحدث كثيرا، ولكن حين يتحدث يستطيع أن يبهر الحضور مهما كان عددهم وثقافاتهم متنوعة، ومن هنا جمع بين القلوب عشق لا يعرف إلا البراءة والإصرار والتمسك بالآخر.
الحب مشروع في كل زمن ومكان ولكن في حالة "جيهان وأنور" لم يكن متاحا بسهولة أولا لفارق السن الكبير بينهما، حيث أن جيهان تؤكد أنها في اللقاء الأول بينهما كانت بعامها الخامس عشر فقط، ولكن حبها الدائم للإطلاع ساعد على نضج شخصيتها سريعا، كما أن السادات كان متزوجا من سيدة أخرى ولديه من الابناء ثلاثة فتيات، مع اختلاف الثقافة بين الطرفين أصبح الزواج في هذه الحالة صعبا، ولكن تمسكت جيهان بأنور حبها الذي أغرمت به قبل أن تراه، واستطاعت أن تواجه عائلتها برغبتها في الزواج من هذا البطل.
الزواج
لم تكن ترى جيهان في أنور إلا قلبه وما فيه من صفات تشعر بها من طيبة القلب وحسن التصرف والإخلاص الشديد لها، وايضا كانت ترى الصفات التي يراها من حوله فيه مثل الشجاعة والإقدام وحب الوطن والتضحية فيه سبيل الارض بكل عزيز وغالي، ومن هنا وجدت اسرتها أن لا مفر من زواجهما وتم الزواج الذي اثمر عن اربعة أطفال هم لبنى ونهى وجمال وجيهان، والسادات هو من أطلق على إبنته الصغرى إسم جيهان حبا فيها وأملا في أن تشبه الصغيرة والدتها، كما أطلق اسم جمال على ابنه الوحيد لحبه الشديد للزعيم الراحل جمال عبد الناصر.
وتروي جيهان السادات أن الحياة في البداية كانت صعبة، حيث كانت ظروف العمل غير ميسرة ولا سهلة، وكانوا يقضون أوقاتا طويلة بلا مال يكفي للمعيشة، ولم يكن يؤثر هذا الأمر في درجة الحب بينهما، بل كانت تعينه وتناصره وتؤكد له أنها تزداد له حبا يوما عن يوم، ولم تشعره يوما بأنه مقصر في أمور البيت بسبب ضيق ذات اليد.
وكانت تهتم بشئون الأطفال بالكامل، ولا تثقل عليه فيما يخص أمور البيت، وهو كان يكرس وقته للتفكير في أمور العمل، وذلك جعلها تمر معه باحداث كثيرة وخطيرة في تاريخ مصر، ومنها ثورة 1952وما تلاها من احداث حتى اصبح أنور السادات نائبا للرئيس جمال عبد الناصر، وكانت تلاحظ دوما انشغاله بالغد في أمور البلاد، وكانت تقرأ في عينيه الضيق احيانا والقلق والتوتر احيانا أخرى، ولكنها لم تكن تسأله على الإطلاق عن أي منهما، إلا لو جاء يحكي لها بإرادته، لأن السادات من النوع الكتوم الذي لا يفصح عما يدور في رأسه بسهولة، وهي تعلم عنه ذلك.
زوجة الرئيس
وفي وسط كل هذه الأمور فوجئت بأنها اصبحت زوجة الرئيس بعد رحيل الزعيم المصري جمال عبد الناصر، وصرحت جيهان بأنها لم تفرح أو تحزن، لأن الحزن كان في داخل قلبها أكبر برحيل الصديق الأقرب للسادات، وكانت تقف مع زوجته لتلقي العزاء مثلها تماما وكأنها صاحبة العزاء، ولم تفق من هذا الأمر بسهولة، برغم أنها كانت تحلم للنساء في مصر بمستقبل اعتبرته واجبا وطنيا يحتم عليها الشروع في كثير من اموره.
وتقول جيهان إن الأمر لم يكن سهلا، لأن المجتمع المصري على قدر ما يتميز به من طيبة وخلق لا يتقبل التغيير بسهولة، ومن هنا فكرت بأن تبدأ بالسيدات في الريف، وكان مجهودا رائعا شعرت فيه بالأمل ونبض الحياة وهي تؤازر النساء في الريف لمكانتهن التي تليق بهن في المجتمع بالتعليم ومزيد من الاهتمام، كما كان للقوانين الخاصة بالأسرة، مع مشروع تنظيم الاسرة كبير الاثر وقتها، برغم أن الأمر لم يتقبله الكثيرين خاصة من المسئولين بسهولة، ولكنها ناضلت لخروج كثير من المشرعات الخاصة بالمرأة ونصرتها للنور في وقت كان الظلام يحيط بها في جوانب الحياة المختلفة.
الواجب
وتؤكد السادات أنها كانت لا تنسى واجبها نحو زوجها وأولادها في نفس الوقت، فكانت ترعاهم وتتابعهم في مراحل التعليم المختلفة حتى قررت أن تشارك في إكمال تعليمها، وتحقيق الحلم في أن تزيد من قدر معرفتها بالحصول على شهادة الجامعة، كما كانت تدرس في نفس الكلية، التي يدرس بها الأبناء، وتخصصت في اللغة العربية، وهي التي حذرها أنور السادات من صعوبتها، وقال لها، «يا جيهان العربية بحورها واسعة ليه دايما بتدوري على الصعب»، ولكنها اختارت الدراسة حتى حصلت على الدكتوراة، برغم أن كثير من الأساتذة كانوا يتصيدوا لها الأخطاء بعكس المتوقع، وذلك لرفضهم لسياسة زوجها في البلاد.
وأوضحت أن السادات كان يحب أن يأكل من الطعام الذي تطهوه بنفسها، وكان يحب الأكل المصري الصعيدي، والملوخية على وجه التحديد، ولم يكن يفضل الأكل الدسم، ولكنه كان يتناوله في الأعياد والمناسبات المختلفة، وكانت الفتة من ضمن ما يشتهيه دائما من الأكلات المصرية الأصيلة، ولم يكن يحب تناول الطعام وحيدا إلا لو اضطر لذلك بسبب العمل أو انشغال الأولاد بالدراسة، موضحة أنه كان يحب التحدث مع أفراد الأسرة حول ما يجول بخاطرهم دائما، فلم يكن ديكتاتورا في المنزل، ولم يكن زوجا صلبا أو متمسكا برأيه تحت أي ظرف، بل كانت المشاركة والشورى أسلوبه في التعامل.
وتحكي السيدة جيهان السادات عن الظروف التي كان مهموما فيها بحال البلاد، وهي أيام طويلة وصعبة، وتقول إنها حكت الكثير في مذكراتها عنه، ولم تخف شيئا، لأنها لا تجد في حياتها مع السادات ما تخجل منه، أو تجد صعوبة في الإفصاح عنه، بل على العكس، هي تعتبر السادات مثل أعلى وقدوة لكل رجل وكل زوج وكل قائد على مر العصور، فقد كان أنور السادات ابا عطوفا وزوجا متفهما وملهما، وقائدا ناجحا يملك من الصفات ما يؤهله ليحكي عنه التاريخ ويخلده في ذكراه.
الغيرة
وعن الطريقة التي كان يغير بها عليها قالت إن الغيرة لم تعرف قلبه، ولم يكن يحمل نحوها إلا كل ثقة وحب، في حين أنها كانت لا تغار عليه بل أحبت أن تقع السيدات في غرامه، وتجدهن معذورات لأنه القائد والرجل الذي يناسب كل عصر ويطابق أحلام معظم الفتيات والنساء، وكانت تستمع للنساء احيانا وهن يفصحن عن رغبتهن في احتضانه وتقبيله فكانت تبتسم وتتصرف وكأنها لم تسمع شئ، بل كانت دعو دائما أن تزيد محبته في قلوب الناس، وتذكر أنها ذات مرة اخبرته أنها كانت تحلم بأحد كبار منتجي الأفلام في هوليوود يعرض عليها دور البطولة في فيلم جديد، وكانا وقتها في زيارة للولايات المتحدة الأمريكية، وكانت تنتظر رد فعله، ولكنه فاجأها كالعادة قائلا: يا ريت هاكون سعيد بهذا الأمر، فضحكت، وضحك معها، وهي لا تنسى ضحكاته ابدا، وتسمعها وهي تحكي وكأنه ما زال موجودا.
الشهادة في سبيل الوطن
أما عن استشهاده، فقالت إنه كان يتمنى أن يرحل بهذه الطريقة، وسط أبنائه من القوات المسلحة، وأبناء الوطن، ولو اختار لنفسه طريقة ينهي بها حياته كان سيختار نفس الطريقة، وهو لم يكن يترك صلاة، ولم يفارق كتاب الله الكريم يده معظم الأوقات، وكان يتمنى أن تكون خاتمته بقدر حبه لهذا الوطن الذي أفنى عمره فيه وكذلك زملائه، وكانت احلامه بعضها مزعج، ولكنه لم يكن يفصح عنها أبدا، وكان يدعو كثيرا احيانا بصوت مسموع واحيانا بصوت غير مسموع.
ولأن العمل يزيد المرأة قوة وصلابة في رايها، قررت أن تعمل في مجال التدريس، الذي رفضته كثيرا، خاصة بعد رحيل أنور السادات، واختارت أن تترك البلاد بعد شائعات نشرتها بعض الصحف عن ذهاب أولادها في طائرة خاصة للدراسة، واختارت الخروج ولم يكن لديها منزل حينها، فعاشت في أوتيل فترة، ثم أقامت لدى سيدة تعيش وحيدة، رحبت بوجودها لتكون شريكا لها في الحياة.
وأصدرت جيهان السادات كتابين يحملان توقيعها، وأيضا أصدرت طبعات جديدة من كتابات الرئيس الراحل محمد أنور السادات في محاولة جديدة لتكريمه، والشعور بروحه وكلماته تتردد كل يوم في مسامعها، وهي الكلمات التي لا تنساها مهما مر الزمان، ولتكن الأيام شاهدا على قصة الحب التي جمعت بينهما رغم كل الفوارق واستمرت حتى بعد رحيل أحد طرفيها.