ألقي مفتي لبنان كلمة في مؤتمر الإفتاء العالمي الذي شارك فيه مسؤولين من 60 دولة.. وهذه نصها:
الحمدُ للهِ ربِ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على أنبياءِ ورسلِ اللهِ أجمعين، وعلى شفيعِنا ونبيِّنا وقدوَتِنا محمد خَاتمِ الأنبياءِ والمرسلين، وعلى آلهِ وأصحابِهِ أجمعين، ومنْ تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
صاحبَ الرِّعايةِ والفَخَامَة، السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي - رئيسُ جُمهوريةِ مِصرَ العربية.
سماحةَ الإمامِ الأكبر، الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، شيخِ الأزهرِ الشريف.
سماحةَ الأستاذ الدكتور الشيخ شوقي علَّام، مفتي جمهوريةِ مِصرَ العربية،
ورئيسَ الأَمانةِ العامَّة، لِدُورِ وهيئاتِ الإفتاءِ في العالَمِ.
أصحاب المعالي والسيادة والسعادة.
الإخوة أصحابَ السَّماحَةِ العُلماءَ الأفاضل.
أيها الحضورُ الأكارم.
يَطِيبُ لي باسْمِي وباسْمِ الوفودِ المـُشَاركَةِ اليومَ، في المؤتمرِ الثالثِ للأمانةِ العامَّةِ لِدُورِ وَهَيئَاتِ الإفتاءِ في العَالم، تَحتَ عُنوان (دَورُ الفَتوَى في اسْتِقرارِ المجتمعَات)، أنْ أَتَقَدَّمَ بِالتَّحِيَّةِ الكبيرة، والشُّكرِ الجَزِيل، لِفَخَامَةِ رئيسِ جُمهوريةِ مِصرَ العربية، السيد عبدِ الفَتَّاحِ السيسي، على رِعَايَتِهِ الكَرِيمةِ لهذا المؤتمر، هذهِ الرِّعايةِ التي تُؤكِّدُ دَائمًا دَورَ أرضِ الكِنَانَة، مِصرَ الحبيبة، قِيادَةً وأزهرًا وإفتاءً وشعبًا، في حَمْلِ القضَايا العَربيةِ والإسلامية، والدِّفاعِ عَنْ حُقوقِ الأُمَّة، والمحافَظَةِ على أَمْنِ واسْتقرارِ مِصر، والتَّمَسُّكِ بالأمنِ القَومِيِّ والعَرَبيّ، وَحَمْلِ أَمانَةِ القَضَايا الإِسلامِيَّةِ المحِقَّة، في وَجْهِ ما يُحَاكُ لمجتمَعَاتِنا العَربيَّةِ والإِسلامِيَّةِ مِنْ مُؤَامَراتٍ وَفِتَن.
أيها السادة:
إنَّ الأزهَرَ الشَّريف، وَمَعَهُ دَارُ الإِفتاءِ المِصرِيَّة، لا يَزالُ وَسَيَبقَى مَرجِعًا عَربِيًّا وإسلامِيًّا كَبِيرًا، ليسَ في مِصرَ فَحَسْب، وإنَّما على مِسَاحَةِ الوَطَنِ العَرَبيِّ وَدُوَلِه، وَعَلى امْتِدَادِ دُوَلِ العَالمِ بِأَسْرِهَا، حيثُ يُشَكِّلُ المسلمون نِسبَةً كَبيرةً مِنْ سُكَّانِ العَالم، الذينَ يَحمِلُونَ رِسَالةَ الإِسْلامِ السَّمْحَة، في الوَسَطِيَّةِ والاعْتِدَالِ وَالرَّحمَةِ وَالمحَبَّةِ وَالقِيَمِ الخُلُقِيَّةِ والتَّآلُفِ الإِنسَانيّ.
فَشُكرًا لِفَضِيلةِ الإِمامِ الأَكْبَر، شَيخِ الأَزهَرِ الطَّيِّب، الدكتور أحمد الطَّيِّب، على كُلِّ الجُهودِ الجَبَّارة، وَالإِنجَازَاتِ الكَبِيرَةِ التي يَقُومُ بِهَا الأَزهَرُ الشَّرِيفُ في مِصرَ وَالوَطَنِ العَرَبيِّ والعَالم، مِنْ أَجْلِ إِحلالِ السَّلامِ وَالوِئَامِ والاسْتِقْرارِ في كُلِّ المجتمَعَاتِ المتَعَدِّدَةِ وَالمتَنَوِّعَة، وَكُلُّنَا يَعْرِفُ، وَالوَاحِدُ مِنَّا يُشَاهِدُ وَيَشْهَدُ في أيِّ بَلَدٍ مِنْ بُلدَانِ العَالم، جُهُودَ عُلمَاءِ الأَزهَر، وَجُهُودَ البَعثَةِ الأزهرية.
وأمَّا دَارُ الإِفتاءِ المِصرِيَّة، المؤسسةُ الدِّينِيَّةُ الإِفتائيَّةُ العَرِيقَة. فقد أَثبَتَتْ عَبرَ تارِيخِها الطَّوِيل، وَبِالأَخَصّ، مَعَ مُفتِي الجُمهورِيَّةِ الحِاليّ، العَلَّامَةِ الشيخ الدكتور شَوقِي عَلَّام، أَنَّها المؤسّسَةُ الدِّينِيَّةُ الرَّسمِيَّةُ الأَقْدَرُ في دَورِهَا الإِفتَائيِّ الصَّحِيح، وفي تَصَدِّيها لموجَةِ الفَتَاوَى المتَفَلِّتَةِ وَالشَّاذَّة، التي تُقَوِّضُ أَركَانَ المجتَمَعَات، وَتَحُثُّ على العُنفِ وَالقَتْل، وَإِحْدَاثِ الاضْطِرَابِ وَالتَّخْرِيب، وَتُتَّخَذُ ذَرِيعَةً لِتَبرِيرِ أَعْمَالِ العُنفِ وَالإِرهَاب.
أيها السادة:
نَلتَقِي اليوم، والعَالَمُ الإسلامِيُّ يُواجِهُ تَحَدِّياتٍ غَيرَ مَسبُوقَةٍ في تاريخِه الحديث ؛ مِنْ مَظاهِرِها، الجرائمُ التي يَتَعَرَّضُ لها إخوانُنا مِنَ الروهينغا، على يَدِ القُوَى العَسكرِيَّةِ الفاشِيَّةِ في ميانمار، التي بلغَتْ أقصَى دَرَجاتِ التَّطهيرِ العِرقِيِّ والدِّينِيّ. وهي أسوأُ جرائمَ ضِدُ الإنسانِيَّةِ مُنذُ جَريمَةِ الإبادةِ الجَمَاعِيَّة، التي تَعَرَّضَ لها إخوةٌ لنا في البوسنة – الهرسك، قَبلَ عَقدَينِ مِنَ الزَّمن.
ومِنْ مَظاهِرِها أيضًا، ما تَتَعرَّضُ له القُدسُ عامَّة، والمَسجِدُ الأقصَى بصورةٍ خاصَّة، مِنَ انتِهاكَاتٍ تَستهدِفُ تَهوِيدَ مُقدَّسَاتِنَا الإسلامية، وَتَصْفِيَةَ الوجودِ العَرَبِيِّ الإسلامِيِّ في المدينةِ التي أُسْرِيَ إليها برسولِ اللهِ محمدٌ صلَّى اللهُ عليه وسَلّم، ومِنها عُرِجَ به إلى السمواتِ العُلى.
ومِنْ مَظَاهِرِها كذلك، اِرتفَاعُ مَوجَةِ العِداءِ لِلإسلامِ في العَالَم، مِنْ خِلالِ رَبْطِهِ ظُلمًا وَعُدوَانًا بالإرهاب.
إننا لا نَستَطِيعُ أنْ نَتَصَدَّى لِهذِهِ التَّحدِّياتِ الوُجُودِيَّةِ الخَطِيرة، مَعَ اسْتِمْرارِ تَفَرُّقِنَا وَتَخَاصُمِنَا..
وَلا نَسْتَطِيعُ أنْ نَتَصَدَّى لها، إذا وَاصَلَ السُّفَهَاءُ مِنّا، تَشْوِيهَ سُمْعَةِ دِينِنا، الذي ارْتَضَاهُ اللهُ لنا، وَجَعَلَهُ عِصْمَةَ أمْرِنَا..
إنَّنَا نَستَطِيعُ أنْ نَتَصَدّى لها، وَيَجِبُ أنْ نَتَصَدَّى لها، إذا ما التزَمْنا دَعوَةَ اللهِ لنا، أنْ نَعْتَصِمَ بِحَبْلِهِ المَتِين، وَقُرآنِهِ الحَكِيم، وَشَرْعِهَ القَوِيم، وَطَرِيقِه المُستَقِيم.
نَسْتَطِيعُ أنْ نَتَصَدَّى لها، باسْتِجَابَتِنَا لِنَصِيحَةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وَسَلَّم، الذي تَرَكَ فِينَا أمرَين، لنْ نَضِلَّ مَا إنْ تَمَسَّكْنَا بِهِما، كِتابُ اللهِ وَسُنَّتُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم.
وَلكِنَّنا لا نَستطِيعُ أنْ نَفْعَلَ ذلك، إذا تَرَكْنَا أُمُورَنَا لِلسُّفَهَاءِ مِنَّا، الذين يُفْتُونَ بِغَيرِ عِلم، والذين يَفْتَرُونَ على اللهِ كَذِبًا.
لا نَستَطِيعُ أنْ نَفعَلَ ذلك، إذا اسْتَخْفَفْنَا بالأَضْرَارِ الفَادِحَة، التي تَلْحَقُ بالإسلامِ سُمْعَةً وَصُورَةً مِنْ جَرَّاءِ الجَرائمِ التي تَرْتَكِبُها باسْمِه، حَفْنَةٌ صَغِيرَةٌ مِنَ الضَّالِّين، وَمِنَ الذين غَضِبَ اللهُ عليهم، الذين خَرَجُوا عَنْ صِرَاطِ اللهِ المُستَقِيم.
أيها السادة:
نحن نَرَى بِالتَّجْرِبَة، أنَّ فَتَاوَى الحَيَاةِ اليَومِيَّة، مَا تَزَالُ شَدِيدَةَ الأَهَمِّيَّة. وَذَلكَ لِأنَّ العَامَّةَ تَتَوَجَّهُ بِها إلى العُلَماء، عَبْرَ العَدِيدِ مِنَ الوَسَائل، لِمَعْرِفَةِ الحُكْمِ الشَّرعِيّ. هذه الصِّلةُ الوَثِيقَةُ وَالحَافِلَةُ بالثِّقَةِ بَينَ السَّائلِ وَالمَسؤُول، وَالعَلاقَةُ القَوِيَّةُ مِنْ جَانِبِ الجُمهورِ الكثيف بِدُورِ الفَتوى، وَالإحْسَاسُ مِنْ جَانِبِ المُسْتَفْتِي، أنَّهُ يَستَطِيعُ الاعْتِمَادَ على عُلَمَاءِ المُؤَسَّسَةِ في صَوْنِ دِينِه، وَالإِعَانَةِ على اتِّبَاعِه، أمَّا الفَتَاوَى المُتَعَلِّقَةُ بِكِبَارِ المَسَائلِ الدِّينِيَّةِ وَالوَطَنِيَّة، فَهِيَ لا تَعْتَمِدُ على الأَفْرَادِ غَالِبًا، وإنَّما على المَجَامِعِ العِلمِيَّةِ وَالبَحْثِيَّة، وَتَنْفَعُ فِيهَا قَضَايا الاجتهادِ الجَمَاعِيّ.
فَدُورُ الفَتوَى لَيسَتْ حَكَمًا بَينَ الدَّولَةِ والثَّائرِين، بَلْ هي مَعَ الدَّولةِ التي يَنْبَغِي أنْ تَبْقَى لِكُلِّ المُوَاطِنِين، حِمَايَةً لِحَيَاتِهِم، وَحُقُوقِهِمْ وَحُرِّيَّاتِهِم، وَمَنْعًا مِنَ الانْدِفَاعِ مَعَ الأهواءِ التي تُهَدِّدُ أمْنَ الدَّولةِ وسلامَتَها، وَسَلامَةَ مُوَاطِنِيْها.
والتَّأَهُّلُ وَالتَّأْهِيل، هذانِ هُمَا اللَّذانِ يُشَكِّلانِ مَعًا، (الخِطَابَ الدِّينِيّ) الذي تَحْفِلُ وَسَائلُ الإعلامِ وَكَلِمَاتُ المَسْؤُولِينَ بِالدَّعوَةِ لِإصْلاحِه. ولدينا أمرانِ أو خِيَارَان: التَّركِيزُ على الاخْتِصَاصِ والتَّخَصُّص، سَواءٌ لِجِهَةِ الفَتَاوَى العَامَّة، أو لِجِهَةِ الإرشَادِ العَامّ. فلا يَظْهَرُ وَلا يَتَحَدَّثُ إلا المُخْتَصُّون، المُكَلَّفُونَ وَالمُدَرَّبُون.
والضَّوَابِطُ لِلفَتْوَى وَالإرشَاد، وَهِيَ أنواعٌ عِدَّة:
الأَوَّلُ وَالأسَاس: مَعرِفَةُ ثَوَابِتِ الدِّين.
والنَّوعُ الثَّانِي مِنَ الضَّوَابِط: يَتَّصِلُ بِآدَابِ الفَتوَى ذَاتِها. وَيَدْخُلُ فيها التَّأَهُّلُ وَالتَّأْهِيل، فَبِسَبَبِ التَّحْرِيضَاتِ في الدِّينِ والانْشِقَاقَات، صَارَتِ الفَتَاوَى خَطِيرَة، لِأَنَّهَا لا تَتَعَلَّقُ بِالقَضَايَا التَّفْصِيلِيَّة، بَلْ بِالخِطَابِ الدِّينِيِّ العَامّ. وَلِذَلِك، فَإنَّهُ في المَجَالِ العَامّ، يُصْبِحُ مِنْ آدابِ الفَتوَى أنْ يَكونَ القَرَارُ مُؤَسَّسِيًّا، وَالحِكْمَةُ وَالجُرْأَةُ تَظَلَّانِ صِفَتَينِ مَطْلُوبَتَينِ في عَمَلِ أهْلِ الفَتوَى.
يُعلِّمُنا القُرآنُ الحَكِيم، أنَّ اللهَ لنْ يُغَيِّرَ مَا بِقَومٍ حتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم. وَمَا هذا اللِّقَاءُ والمؤتمرُ المُبَارَكُ بِإِذْنِ الله، سِوَى حَرَكَةٍ إسلامِيَّةٍ جَمَاعِيَّةٍ في الاتِّجَاهِ الصَّحِيح. في اتِّجَاهِ تَغيِيرِ مَا بِأَنْفُسِنا. وَليسَ أَولَى مِنْ عُلمَاءِ الأُمَّةِ المُجْتَمِعِينَ هُنا، وَبِدَعوَةٍ كَرِيمَةٍ مِنْ دَارِ الإفْتَاءِ المِصرِيَّة، في قِيَادَةِ حَرَكَةِ التَّغيِير، التي تُعِيُد للإسْلامِ دَورَهُ الرُّوحَاِنيَّ والإنسَانِيَّ البنّاء، رِسَالَةَ سَلامٍ لِلْعَالَمِين.
إنَّه يُشَرِّفُنِي وَيُسْعِدُني، أنْ أتَحَدَّثَ باسْمِ إخْوَتِي أصحابِ السَّمَاحة، مُفتِي الدِّيَارِ الإسلامِيَّة، لِأُعْرِبَ عَنْ عَمِيقِ الشُّكرِ وَالتَّقدِير، لِسَمَاحَةِ مُفتِي جُمْهُورِيَّةِ مِصرَ العَرَبِيَّة، الشيخِ الدكتور شَوقِي عَلَّام، على مُبَادَرَتِهِ الكَرِيمة، بِدَعْوَتِنَا إلى هذا اللقاءِ الجَامِع، في هذا الوَقتِ بالذَّات، الذي يُوَاجِهُ فيه دِينُنَا الحَنِيفُ انْتِهَاكَاتٍ مِنَ الدَّاخِل، وَافْتِرَاءَاتٍ مِنَ الخَارِج.
إنَّ هذه الانْتِهَاكَاتِ وَالافْتِرَاءَات، تُشَكِّلُ وَجْهَينِ لِعُملةٍ وَاحِدَة، هي تَشْوِيهُ صُورةِ الإسلام، وَكُلٌّ مِنهُما تُبَرِّرُ الأُخرى وَتُغَذِّيهَا على حِسَابِ الحَقِيقَةِ وَالحَقّ.
وَلِذلِك، فإنَّ مُهِمَّتَنَا الأُولى، هي أنْ نُبَدِّدَ هذه الافْتِرَاءَات، وَأنْ نَتَصَدَّى لِهذهِ الانْتِهَاكَات، بِالعِلمِ وَالمَنطِق، وَبِالحِوَارِ بِالتي هيَ أحْسَن.
إنَّ اللهَ سُبحانَهُ وَتَعَالَى، الذي أَنزَلَ الذِّكْر، قَادِرٌ على حِفْظِهِ كَمَا جاءَ في القرآنِ الكريم: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾.. وَلِلهِ رِجالٌ إذا أَرَادُوا أَرَاد.. وَبِهَؤلاءِ الرِّجالِ الذِّينَ يُمَثِّلُونَ عُلمَاءَ الأُمَّةِ وَمَرَاجِعَهَا الدِّينِيَّة، يَحفَظُ اللهُ ذِكرَهُ الحَكِيم ودينَهُ القَويم، لِيبقَى نُورًا سَاطِعًا لِلعَالَمِين، وأمْنًَا واسْتِقْرارًا للنَّاسِ أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.