بعد أكثر من ثلاثة أعوام من سيطرة تنظيم داعش على مدينة الرقة السورية، استعادت قوات سوريا الديمقراطية كامل سيطرتها على الرقة، مما أثار تساؤلات حول مستقبل داعش، ومن سيحكم المدينة المدمرة، وسط غضب تركي ملحوظ من الخطوة التي أسعدت أمريكا كثيرًا.
في البداية.. ما الذي حدث؟
أعلنت قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، تلك القوات الكردية العربية التي تسيطر عليها وحدات حماية الشعب الكردية، يوم الجمعة الماضي، سيطرتها على مدينة الرقة السورية، وتحريرها من تنظيم داعش الذي كان يسيطر على المدينة منذ أكثر من ثلاث سنوات، بعد بسط سيطرته الكاملة على المحافظة السورية في أغسطس2014.
وقد أعلن التحالف الدولي الذي تقوده أمريكا ذلك "الإنجاز" بشكلٍ رسمي، مُهنئًا في بيان له "قسد" المدعومة منه على تحرير المدينة السورية، واحتفلت قسد بتحرير المدينة، في أجواء ساد عليها الطابع "الكردي"، برفع صورة عبد الله أوجلان، الزعيم الكردي بحزب العمل الكردستاني، المسجون في تركيا منذ عام 1999 بعد الحكم بالسجن مدى الحياة لاتهامه بالخيانة، وهو أمر أزعج أنقرة كثيرًا، وزاد من وتيرة التوتر بينها وبين واشنطن.
وعقب الإعلان عن تحرير المدينة، قال طلال سلو المتحدث باسم قسد إن "مستقبل محافظة الرقة سيحدده شعبها في إطار سوريا الفيدرالية اللامركزية الديمقراطية التي سيتولى فيها سكان المحافظة شؤونها الخاصة"، في إشارة إلى إمكانية إقامة حكم ذاتي في المنطقة، وكلمات سلو لم تختلف كثيرًا عما جاء في بيان التحالف الذي تضمن "إن إدارة المدينة سوف تسلَّم إلى مؤسسات الحكم المحلية ليقرر سكان الرقة مستقبلهم بأنفسهم".
-ماذا يعني استعادة الرقة بالنسب لتنظيم الدولة والتحالف الدولي؟
منذ الظهور الأول لتنظيم داعش في نهاية عام 2013، كانت الرقة هي أكبر مدينة رئيسية يسيطر عليها التنظيم في سوريا، وكانت تعتبر مقر السلطة للتنظيم عامًا، وعاصمة ما يسميه التنظيم بـالخلافة، لذلك فإن الرقة تحمل قيمة اعتبارية كبيرة للتنظيم سياسيًا وعسكريًا وحتى إعلاميًا.
ويمثل سقوطها ضربة قاسية للتنظيم، وتقليصًا كبيرًا لنفوذه في المناطق التي ظهر فيها أولًا منذ الإعلان عن نفسه في الساحة، وتأتي بعد أشهر قليلة من إعلان الحكومة العراقية، في يوليو الماضي، استعادة "الموصل"، التي تُعد أكبر مدينة سكانية سيطر عليها التنظيم منذ نشأته، وتمثل مقره الأساسي في العراق، وبذلك فإن التنظيم الذي اتخذ من العراق والشام جزءًا من اسمه، قد خسر أكبر معاقل له في هذين المكانين.
وهاتان خريطتان تظهران تقلص المناطق الخاضعة لسيطرة التنظيم بشكل كبير في العراق وسوريا، فالخريطة الأولى تظهر حجم سيطرة كبيرة للتنظيم في البلدين في يناير 2016، فيما تظهر الخريطة الثانية التقلص الكبير في سيطرة التنظيم، مع الوصول لأكتوبر 2017 الجاري، وتظهر المناطق الخاضعة للتنظيم باللون الأحمر فيما تظهر المناطق الخاضعة لغير التنظيم باللون الأسود.
وعلى الرغم من تقلص مناطق سيطرة تنظيم الدولة في سوريا إلا أنه لم ينتهِ بالكامل، فلا يزال يسيطر على بعض المناطق شرقي سوريا كما تظهر الخريطة، وهو ما أكد عليه التحالف في بيانه عندما شدد بشكل واضح بأن تحرير الرقة "لا يعني حسم الحرب ضد داعش".
ويُضاف إلى القيمة الكبيرة إلى الرقة في سوريا فقد لفت التحالف أيضًا إلى أن الرقة كانت المركز الرئيس للتمويل والتخطيط للاعتداءات الإرهابية التي استهدفت أوروبا وعددًا من الدول الغربية في السنوات الأخيرة، كما حدث على سبيل المثال في هجمات باريس وبروكسل ونيس ومانشستر، مما قد يُقلص من هجمات مماثلة في المستقبل، وبالأخص إذا كان العقل المدبر لها يعيش في سوريا، في وقت يشتد الحصار والخناق على عناصر التنظيم هناك.
- لمَ الانزعاج التركي؟
تعتبر تركيا من أشد المنزعجين من الاحتفال الكردي الأمريكي بإسقاط الرقة؛ ففي الوقت الذي تعتبر فيه أمريكا الوحدات الكردية هي صديقها المفضل في الداخل السوري، لا تفرق أنقرة كثيرًا بين تنظيم الدولة والوحدات الكردية، وتصنفهما كليهما على أنهما منظمات إرهابية، وتعتبر تركيا الوحدات الكردية الُمسيطرة على قسد هي امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، المصنف إرهابيًا في تركيا وأمريكا والاتحاد الأوروبي، الذي تحاربه أنقرة جنوبي تركيا بالقرب من الحدود السورية التركية.
وقد كان أحد أهم أسباب التدخل العسكري التركي في سوريا شمالي سوريا، في عملية درع الفرات التي انطلقت في أغسطس 2016، هو وقف تمدد سيطرة الوحدات الكردية على الشريط الحدودي بين سوريا وتركيا، وقد وقعت اشتباكات مباشرة بالفعل بين تركيا وحلفائها بالداخل من جهة، وبين الوحدات الكردية خلال عملية درع الفرات.
وهذه خريطة محدثة حتى أمس السبت تُظهر سيطرة الأكراد (باللون الأصفر) على شمالي سوريا واستعادة المعارضة (باللون الرمادي) بمساعدة تركيا من خلال درع الفرات جزءًا من شمالي سوريا (المشار عليه بالسهم) لتقطع خط السيطرة الكردي على الحدود السورية التركية.
وقد أشعل رد الفعل الكردي عقب السيطرة على الرقة، توتر العلاقات المتوترة أصلًا بين أنقرة وواشنطن، برفع صورة أوجلان، إذ قال رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم، الجمعة الماضية، إنّ عرض صورة أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني "يضر العلاقات الأمريكية التركية بشدة، بهذه الخطوة تتعاون الولايات المتحدة لا مع الإرهابيين فحسب، بل وتهدد مستقبل سوريا"، متسائلًا "إنني أتعجب، هل تريد الولايات المتحدة أدلة أخرى كي تقر بأن وحدات حماية الشعب الكردية منظمة إرهابية".
ولم يتوقف الانزعاج التركي على يلدريم فقط، وإنما امتد لرئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان الذي تساءل "كيف تفسر الولايات المتحدة صورة أوجلان في الرقة؟ هل هذه هي الطريقة التي يتعاونون بها معنا في الصراع ضد الإرهاب؟ إنكم لا تقفون معنا ضد الإرهاب".
وأدى الغضب التركي من صورة أوجلان إلى محاولة تهدئة أمريكية أمس السبت، بإدانة البنتاجون الأمريكي على لسان المتحدث باسمه لرفع صورته، مؤكدًا مواصلة دعم واشنطن لأنقرة لمحاربة حزب العمال الكردستاني.
ولكن يبدو أن تلك الكلمات لم تخفف الغضب التركي كثيرًا، إذا قال وزير الدفاع التركي نور الدين جانيكلي أمس السبت أيضًا "إن واشنطن قدمت للوحدات الكردية أكثر من 3500 شاحنة محملة بالسلاح"، مؤكدًا أن التهديد "الإرهابي" للوحدات "مستمر، ولن يهدأ لنا بال حتى نزيل هذا التهديد"، واستغرب نور الدين استمرار تسليح واشنطن للوحدات الكردية "بالرغم من تطهير قسم كبير من الأراضي السورية والعراقية من تنظيم الدولة، الذي كانت واشنطن تتذرع به لتقديم السلاح للحزب".
ومع تقلص مناطق سيطرة تنظيم داعش في سوريا، وتقلص الحديث عن ترك بشار الأسد للسلطة في سوريا، أصبحت المواجهة التركية للأكراد أولوية لأنقرة مما دفعها للتعاون مع إيران التي تمتلك مخاطر كردية مشابهة، بالإضافة لروسيا التي تُحيِّد موقفها بشكل ما تجاه الأكراد.
في مواجهة أمريكا التي تصادق الوحدات الكردية، وربما السعودية أيضًا التي يبدو أنها دخلت في مصادقة الأكراد حديثًا، من خلال زيارة أجراها وزير السعودية لشئون الخليج العربي ثامر السبهان، قبل أيام، في رفقة المبعوث الأمريكي الخاص للتحالف الدولي بريت ماكغورك، زار فيها قرى الرقة وقيادات للوحدات الكردية وحزب الاتحاد الديمقراطي التابع لها، لدعم مجلس الرقة المدني الذي تسيطر عليه الوحدات الكردية.
الرقة بعد استعادتها
نعم تمكّنت الوحدات الكردية بمساعدة التحالف الدولي من استعادة مدينة الرقة من تنظيم داعش، ولكن المدينة أصبحت مدمرة حرفيًا بشكل شبه كامل، ففي شهر سبتمبر السابق أفادت تقديرات للأمم المتحدة بأن 80% أصبح مدمرًا وغير قابل للمعيشة والسكن، نتيجة للمعارك والغارات الجوية التي وقعت في المدينة السورية خلال السنوات الماضية، وهو ما يحتاج عمليات إغاثة وإعادة إعمار تحتاج وقتًا طويلًا.
ولقد كثّف التحالف الدولي بقيادة أمريكا ضرباته على الرقة بشكلٍ كبير، ليكون أكبر عدد للغارات الجوية التي أطلقها التحالف على أهداف تنظيم الدولة المختلفة في سوريا والعراق، هي تلك التي أطلقها على الرقة، كما يظهر كبر حجم الدائرة على الرقة، ليقترب عدد الغارات من 3.5 ألف غارة، كما تظهر هذا الخريطة التي رصدت أكثر من 26 ألف غارة جوية أطلقها التحالف في سوريا والعراق على أهداف لتنظيم الدولة منذ أغسطس 2014، وحتى 17 أكتوبر الجاري.
- من سيحكم الرقة بعد استعادتها
بعد استعادة الرقة، أصبح من الصعب التحكُّم فيها سواء على المستوى الإداري أو السياسي، فإداريًا ليس من السهل أو الجذّاب إدارة مدينة الرقة المدمرة بشكلٍ شبه كامل وتحتاج إعادة إعمارها الكثير من الوقت والجهد والمال.
وعلى المستوى السياسي، فقد أعلن التحالف الدولي، قبل أسبوع بأن ما يسمى بـ"مجلس الرقة المدني" هو من سيدير الرقة بعد استعادتها من تنطيم داعش، وسيحصل على ما يحتاج من دعم من التحالف الدولي لإعادة إعمار المدينة، ويتكون ذلك المجلس من أعضاء عرب وأكراد، ولكن يظل الأكراد هم الأكثر سيطرة عليه.