"ريس الموقف"، مهنة ليست بالبسيطة، ولا بالهينة، بل هى أشبه بإدرة إحدى كبريات الشركات، التي يعمل فيها ما يقرب من 1000 موظف، لكل منهم هوى، ومطلب، ولكل منهم مأرب ومشرب، وحتى يستطيع فرد ما السيطرة على هذا الجمع من السائقين، يجب أن يتمتع فوق قوة الشخصية، بحواس متيقظة، ولماحية تمكنه من ضبط آداء السيارات طيلة اليوم.
مع شروق شمس كل يوم، ومع سبحات الطير في السماء، والذي يخرج ساعيًا على رزقه، لا يد\ري كم مقداره ولكنه يدرك أنه سيأتي، يخرج العم حمدي من بيته، متوكلًا على ربه، يسأل من يرزق الطير أن يرزقه، فهو لا يعنيه شيئًا سوى الحلال، الذي يعيش عليه منذ أن وعت عيناه على الدنيا.
عمل الرجل في موقف ميكروباص البدرشين، مئات السيارات، بمئات السائقين، وتابعيهم، كل هؤلاء ينتظر الإشارة من "ريس الموقف"، كي يتحرك، فكل سيارة تعلم أن للموقف نظامًا، إن هو اختل، فستختل عجلة رزق اليوم، ويختلط الحابل بالنابل، ولا يعلم من سيذهب إلى أين.
العم حمدي الرجل الستيني، لا ينادي على سائق، وإن أنت ناديت عليه فلن يجيبك، بل يشرط أن يراك حتى يتجاوب معك، لأنه ببساطه، لم يسمع من قبل، فهو أصم، لا يسمع ولا يتكلم، وعلى الرغم من حالته تلك إلا أنه يستطيع أن يدير العمل على أكفأ ما يكون.
علم الرغم من حالته، إلا أنه يوميًا تجده متوجهًا إلى عمله في السادسة صباحًا، ولا يعود لمنزله إلا في العاشرة مساء، لا يتعامل مع عالمه المحيط سوى بلغة الإشارة، تلك اللغة التي لا يتقنها الكثيرين، إلا أنهم لحسن خلق الرجل، وقوة شخصيته الأسرة، التقطوا مفرداتها الأولية، فهى لغة ذات أحرف، وكلمات، وتعبيرات، ولكنها بلا صوت.
استطاع العم حمدي، أن يمارس مهنته بإتقان، وأن يشيع حالة خاصة من التفاهم بينه وبين السائقين، ويقول عنه ابنه، إبراهيم: "كان والدي يعمل كبائع للسجائر والمناديل بمنطقة السيدة زينب، ومنذ ثماني سنوات، أتينا إلى البدرشين، فهى موطننا الأصلي، وبدأ نشاطه هنا على "فرشة" لبيع المناديل والسجائر في الموقف، ثم بدأ في تنظيم حركة المرور بالموقف، ووضع نظام لدخول وخروج السيارات، وللأدوار، وتوزعها على السائقين، ومن له الأسبقية، ونظام مبيت كل سيارة، ولأنه يجيد القراءة والكتابة، ويتميز بالذكاء الحاد فقد استطاع، أن يتواصل مع الجميع ويرتب لهم نظام يومهم".
الناظر للعم حمدى من الوهلة الأولي يشعر أنه مجرد شخص آخر، فهو لا يُعلم من حوله بحالته، وتشعر أنه طبيعيًا بشكل ما حتى تبدأ في التفاعل معه، ومع كبر سنه، وهدوء ملامحه، إلا أن روحه تملؤها الحماسة، وقسماته تغمرها البشاشة، وقلبه يفيض بحيوية يفتقدها الشباب، الأمر الذي انعكس على من حوله، وأصبح مصدرًا لطاقة إيجابية تصيب كل من يتعامل مع عن قرب، أو يراه عن بعد، ويقول ولده، أننا نطالب أبينا دائمًا بالراحة فنحن نستطيع كفاية طلباته، إلا أنه ما يشير لنا دومًا إلى يده، وإلى عمله، ثم يرسم بأحرف قلمة، ألا توقف عن العمل، فاليد التي لا تعمل لا يحبها الله تعالى.
نقلت عدسة "أهل مصر"، يومًا من حياة رجل، لا يسمع، لا يتكلم، ولكنه أيضًا لم يتسول، ولم يكن عالة على أحد، ولم يحمل حتى أولاده هم يومه، مثال نادر من البشر، الذين يجعلون الشباب يخجلون من شكايتهم، لم ينتظر أحدًا، ولم يطلب من أحد شئ، وإنما ضرب بسهم جهده فرزقه ربه بما يشاء.