يدق جرس المنبه اليومي كالعادة كل صباح، في الساعة السادسة تحديدًا، تنهض نادية، من فراشها متثاقلة ومستعدة ليوم جديد شاق من العمل، تنزح إلى مطبخها تعد فطورًا سريعا، حتى لا تواجه بخصم من الراتب، أو تكدير من رؤسائها في العمل.
وتتذكر "نادية" أجمل لحظات حياتها يوميا بالرغم من مرور الأعوام وهي في طريقها إلى الباب لخروجها لعملها، تنظر إلى صورة زواجها، تتذكر تلك الأيام حين حصلت على شهادة الدبلوم، ولم يكن لها أن تتابع مسيرتها التعليمية، قلما من كانوا يفعلون ذلك، من اللاتي عاصرتهن نادية، إلا أن والديها قاما بتزويجها،وبدأت ناديه طريق الشقاء، مع زوج ميسور الحال، خاضا معا عراكًا ضاريا ضد الزمن وصعوبة المعيشة الزوجيه من ألتزمات وتأسيس أسرة.
كانت "نادية سلطان معبد" تتحاشى الزحام مع الآخرين من الموظفين وطلاب الجامعة، أثناء خروجها من مسكنها بحي التطبيقيين بمدينة الفيوم، لتستقل ميكروباص يحملها إلى مقر عملها،كـ"عاملة نظافة " بوحدة إدارة المشروعات بجامعة الفيوم، محتفظة بزي النظافة الخاص بها في "كيس أسود "، لتبدل به ملابسها الخاصة بالزي الرسمي لعاملة النظافة بالجامعة حينئد لبدء العمل.
تروى "أم محمود" كما يفضل أن يناديها زملائها بالعمل، بان هذه الوظيفة هي الوحيدة التي نجحت في الحصول عليها بشهادتها المتوسطة لتساعد اسرتها البسيطه والصغيره بعد وفاة زوجها منذ سنوات حتى تتغلب وتلبي متطالبات اولادها الاثنين الصغار حينها،واالذي تركهم لها عائل أسرتها الوحيد دون دخل أو مصدر رزق، لكن ثمة أمل كان ينمو ببطء، مع تصاعد وتيرة العمل الشاق الذي تمر به أي عاملة نظافة، وتحاشيا للنظرات الدونية التي يطلقها بعض ضعاف النفوس هنا وهناك بمحيط مسكنها خاصة والمجتمع عامة.
وعانت" نادية "من نظرات اللوم والعتاب بعيون ابنائها في بداية حياتهم ودراستهم حينئذ لكونها عاملة "نظافة "لخجلهم من هذه المهنة التي يراها الكثير من المجتمع أنها وصمة عار وكأن عامل النظافة أفة معديه ومرضية،وليس هذا فحسب بل وتحمل الفطور الصباحي إلي مكتب الموظف الفلاني، أو تساعد الأستاذ العلاني في إجراء شأن ما داخل الجامعة، تلك الوظيفة التي ما اعتقدت يومًا أن تتقدم لها، لكن الظروف تفرض كثيرا، مما لا يتوقعه غيرها من محيط سكنها وعملها.
وخلال سنوات عملها، نجحت “السيدة البسيطه” في الاحتفاظ بعلاقات طيبة مع زملاء العمل من عاملات النظافة داخل الجامعة،ليس هذا وحسب بل وأعضاء هيئة التدريس في كل كلية عملت بها، مخلفة ورائها أعباء عمر ثقيل، جنت فيه قليل من المال، و3 أبناء، تزوج اثنين منهم، والثالث يقضي خدمته العسكرية الإجبارية التي تفرضها الدوله، ضمن جنود آخرين.
انتظرت “أم محمود” أعواما طويلة مرت ورضت بفيض الله ورضت بالحال وقليل من المال لتربية صغارها، حتى تعلن الجامعة عن فتح باب التقديم، لشغل وظائف إدارية، ولكونها تخطت الأربعين، فلم يكن يحدوها الكثير من الأمل، تجاه ما ستسفر عنه نتائج قبول المتقدمين لشغل الوظائف، ولكنها كانت تأمل وترجى الله والتي رضت بقليل المال والحال والنظرة الدونية من كثير ممن حولها ويعرفها وايضا من لا يعرفها من المجتمع.
ولكن كانت المفاجأة كانت التي غيرت لـ “أم محمود”مجرى حياتها رأسا على عقب وتكليلا لها بعد قضاء سنوات عديده، لتجد نفسها على رأس قائمة المقبولين لشغل وظيفة أمينة معمل بجامعة الفيوم بوحدة إدارة المشرعات داخل الجامعة، والذي سكب على قلبها السعادة الغامرة، وما كان كمثل المفاجئات التي تغير الأقدار في منتصف العمر.
وتذكر “أم محمود” أنها لم تعد ترغب بشيء، بعد أن أرضاها الله بالرزق والولد، مشيرة إلى أنها تنتظر أن يتم آخر أبنائها خدمته العسكرية حتى تبدأ في تهيئة حياة زوجيه له والبحث في مشروع تزويجه، وانتظار أبنائه اسوة بأخوته اللذين قامت بتزويجهن وبناء اسر لهم والاطمئنان على مستقبل ابنائها واداء رسالتها التي ناهضت وثابرت من اجلها، كما تنتظر جدة في الخمسين من عمرها أن ترزق بأحفاد.