انقباض شديد وسكون وصمت تام، وأصوات الأقدام يسمعها من بالداخل، والكل يرقد في عالمه منعزلًا عما يحدث في الخارج، وسط رائحة الدم التى تفوح بالمكان وتزكم الأنوف، وموظف أربعيني يسجل أسماء الوفيات داخل دفتر حكومي.. هنا مشرحة "كوم الدكة" بالإسكندرية، ذلك المبنى الذي يحوي بداخله الكثير من الأسرار والجوانب الخفية التي يحاول الإنسان دائما معرفة أي تفاصيل عنها، وعن قصص وحكايات تلك المرحلة الأخيرة، ما قبل نقل الجثة إلى مثواها الأخير حيث دفنها بالقبور.
"أهل مصر"، التقت أحد العاملين داخل مشرحة كوم الدكة، وتحدثت معه عن طبيعة داخل المشرحة، لتزيح الستار قليلًا عن الغموض الذي يحيط بالحياة داخل المشرحة، وبعض المواقف التي يحاول الإنسان دائما معرفة أى تفاصيل وقصص وحكايات عنها.
-"مش خايف من العفاريت""أعمل في هذه المهنة من عشرات السنين وعمري ما خوفت من العفاريت".. بهذه الكلمات استهل أحد أقدم العاملين بمشرحة كوم الدكة، والذي اختار "أحمد السيد" كاسم مستعار بدلا من اسمه الحقيقي، حديثه لـ"أهل مصر"، موضحًا أن من يعملون بهذا المكان يملكون مشاعر إنسانية ويتأثرون مثل باقي الأشخاص الآخرين، ولكنهم لا يستطيعون أن يصارحوا الناس بذلك، خاصة وأنهم قد تعودوا على ذلك وينامون دائما داخل المشرحة، لافتا إلى أن هذا المكان يعد سترة للميت ولا يصح البوح بأسراره.
وحول المواقف التي صادفته خلال رحلة عمله داخل المشرحة التي لا تُنسي وظلت عالقة في ذهنه، ابتسم "السيد" قائلا: "شرُّ البليَّة ما يُضحك" فهناك العديد من المواقف الطريفة التي يتذكرها جيدا منها أنه في أثناء ثورة 25 يناير والأحداث التي لحقتها من فوضي، استقبلت المشرحة العديد من الجثث المصابة بطلقات نارية في أحداث الثورة، وكان من بين هذه الجثث لشخص به آثار طلق ناري في الرأس، وفوجئ هو والعاملين بالمشرحة بأحد البلطجية من ذوي المقتول اقتحم المشرحة بالقوة وأخرج جثة القتيل من الثلاجة وحمله على كتفه كأنه "طاولة عيش" وخرج به ووضعه في سيارة إسعاف تابعة للمشرحة كان قد سرقها من داخل مرفق الإسعاف المجاور لها، وقادها بنفسه دون أن يستطع أحد منعه أو اعتراض طريقه.
وأضاف أنه خرج وراءه قبل أن يقلع بسيارة الإسعاف وأخبره بأنه بهذا يهدر حق القتيل ولن يتم حصره ضمن شهداء الثورة نظرا لعدم استلامه وخروجه من المشرحة بطريقة قانونية، فاقتنع الشخص بذلك ونزل من السيارة وقام بحمل الجثة على كتفه مرة أخرى ووضعه داخل الثلاجة في مشهد أثار دهشة الحضور من الأهالي المنتظرين لاستلام الجثث التابعة لهم.
- طفل نائم أسفل جثة آخروتابع "السيد"، أنه توجه ذات مرة أحد موظفي الإسعاف لإحضار شخص متوفي "لقيط" متواجد داخل "شوال"، وبعد أن وصل إلي مكان الجثة فتبين أنه طفلا، فانتظر إلي أن حضرت الشرطة والنيابة لمعاينة الواقعة، ثم قام بحمل الجثة داخل سيارة الإسعاف لنقلها إلي المشرحة، وعقب وصولها وأثناء محاولة موظفي المشرحة معاينة جثة الطفل فوجئوا بأن الجثة أسفلها طفل آخر على قيد الحياة نائما داخل "الشوال" ولم يراه أحد أثناء المعاينة قبل نقل الجثة، وتم تسليم الطفل الحي إلى قسم شرطة العطارين وتم إيداعه في أحد دور الرعاية الخاصة بأولاد الشوارع.- ماتت بسبب "الجن"واستكمل أن المشرحة استقبلت منذ فترة جثة لفتاة في العقد الثاني من عمرها، لقيت مصرعها أثناء محاولة أحد الدجالين استخراج الجن من جسدها واعتدى عليها بالضرب، إلى أن لفظت أنفاسها الأخيرة وفارقت الحياة، لافتا إلى أن هناك عدد كبير من الجثث يتم استقبالها ويكون سبب الوفاة محاولة استخراج الجن من الجسد.- سترة للميتوأوضح أن هناك العديد من الغرائب والمواقف المؤثرة التي شهدها على مدار فترة عمله، ولكن لا يليق الإفصاح عنها سترة للميت ولأهله، حيث منها ما يمس الأعراض، مضيفا أن داخل جدران هذا المبنى العديد من القصص والروايات المأساوية والمؤثرة ولكن يفضل عدم البوح بها سترة للميت واحتراما لخصوصية الأشخاص.