العالم الذي تشكل في القرن العشرين، ورغم حربين عالميتين وحرب باردة، غير العالم الذي تشكل في القرن التاسع عشر،أما العالم الذي أخذ يتشكل بعد العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين سيكون مختلفاً تماماً.
ويرجع هذا الاختلاف إلى عدم وجود سيطرة عالمية لدولة كبرى واحدة أو دولتين بل أصبحت هناك قوي كثيرة متنازعة حول العالم مثل روسيا والصين والهند، وتعاظم أدوار قوى إقليمية مثل إيران وتركيا والبرازيل وجنوبي أفريقيا.
-بداية سقوط امريكا
قالت صحيفة النيوزويك الأمريكية أن بعد الحرب العالمية الثانية، وحتى بداية القرن الواحد والعشرين، أخذت أمريكا بالتراجع خلال السبع سنوات الماضية،وقد جسد عهد باراك أوباما هذه الحالة.
فقد أسماها أوباما نفسه بـ"القيادة من الخلف"، أما دونالد ترامب ففي عهده تراجعت كل جميع القيم الإنسانية، وحدثت الانتكاسات في العالم العربي بأكمله.
لكن سياسات باراك أوباما لم تكن مجرد اجتهادات شخصية تتعلق به، وإنما كانت انعكاساً لمسلسل الانتكاسات التي طالت إدارة بوش الابن في العراق وأفغانستان.
وفشل الكيان الصهيوني في حربي 2006 و2008/2009، في كلٍ من لبنان وقطاع غزة، بالإضافة إلي الأزمة المالية العالمية التي أطاحت بالعولمة الأمريكية في 2008.
ولهذا عندما تسلم دونالد ترامب اجتمعت شخصيته المضطربة مع بنية داخلية منقسمة على نفسها مجتمعياً وسياسياً ومؤسساتياً،وفقاص للصحيفة وهو ما يفسر لجوءه للجنرالات لمساعدته.
-مؤتمر الرياض
ووأكدت الصحيفة أن الخطوات السياسية التي اتخذها ترامب في سنته الأولى لم تحقق حتى الآن سوي الفشل وذلك ابتداءً من مشاريع قوانينه ضد الهجرة، مروراً بما فتحه من معركة ضد الاتفاق النووي مع إيران حيث قوبل بعزلة قاسية من قبل روسيا والصين وإلمانيا وبريطانيا وفرنسا.
ثم جاء المؤتمر الذي عقده في الرياض وجمع له 53 رئيساً عربياً وإسلامياً ليجعله نقطة حشد ضد إيران وحزب الله وحماس، وإذ به يتداعى ويسقط أرضاً مع توجه كل من السعودية ومصر والإمارات والبحرين لضرب الحصار على قطر.
الأمر الذي حول المعركة إلى معركة ضد قطر، وليس ضد إيران، واضعاً قمة الرياض على الرف، وما زال هذا المأزق قائماً ليشكل دليلاً على فشل سياسات ترامب من جهة، وعلى عجزها عن تجاوزه بالسرعة الكافية من جهة أخرى.
الأمر نفسه حدث مع اندفاعة ترامب باتجاه القضية الفلسطينية، وقد أعطاه عنوان "عقد صفقة تاريخية"، وكلف اثنين من مساعديه وهما جيراد كوشنر وجيسون غرينبلات ليقوما بالتحضير لهذه الصفقة.
وقام الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى أعلان إجراءات استثنائية مضاعفة لمحاصرة قطاع غزة لفرض إنهاء الانقسام من خلال مجيء حماس مستسلمة، وذلك بعد أن يُغرق القطاع في الظلام بعد قطع الكهرباء فضلاً عن حرمانه من الدواء والماء الصالح للشرب ومن كل المساعدات الصحية والاجتماعية والمالية التي كانت تقدمها سلطة رام الله إلى القطاع.
-رسالة مصر لامريكا
لكن هذه الخطوة سرعان ما أُحبطت بعد تحرك قيادة المخابرات العامة المصرية بإجراء تفاهمات مع وفد من حماس برئاسة يحيى السنوار، الأمر الذي وجه رسالة لدونالد ترامب نفسه، مفادها أن أي تحرك باتجاه القضية الفلسطينية، أو قطاع غزة، يجب أن يمر من خلال مصر، وليس من خلال تجاهلها والتحرك كأنها غير موجودة كما فعل كوشنر وغرينبلات، لأنها راعية القضية الفلسطينية الأولي.
هذه الخطوة المصرية أجبرت محمود عباس على العودة إلى مصر، وأدت إلى استعادة مصر للملف الفلسطيني، وقد ترجم ذلك بإعلان بيان مصالحة بين حماس وفتح صدر في القاهرة.
على أن هذا التطور نقل الوضع في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية إلى مرحلة جديدة تختلف عن المرحلة التي سبقتها، سواء كان من جانب تحرك دونالد ترامب الذي عبر عنه كوشنر وغرينبلات من جهة، أم كان من جانب محمود عباس في محاصرة قطاع غزة، أم كان من جانب وضعية الانقسام الفلسطيني والانتقال إلى مرحلة أولى من مراحل المصالحة بين حماس وفتح من جهة ثالثة.
فعلى سبيل المثال أعلن محمود عباس في أثناء الحوار بين وفدي فتح وحماس حول المصالحة في القاهرة "أن لا مصالحة إلاّ على أساس سلطة واحدة وسلاح واحد وأجهزة أمنية واحدة وقرار واحد للسلم والحرب"، فيما أعلنت قيادات من حماس أنها ستقبل بأن تتسلم سلطة رام الله كل السلطة في قطاع غزة عدا سلاح المقاومة وأنفاقها وأمنهما.
الأمر الذي يضع المصالحة مع الإصرار المصري عليها، خارج التعرض لنقطتي الخلاف، أي عند الحدود التي وصلتها الآن، لكن الأهم أين أمريكا وهذه التطورات؟
-قرارات ترامب المتخطبة
لقد اتسمت الأشهر العشرة الأولى من عهد دونالد ترامب بالاضطراب بعد فتح معارك متعددة، في آن واحد، ضد النووي الكوري الشمالي، وضد الاتفاق النووي الإيراني، وضد داعش، وضد حزب الله وحماس، وضد روسيا والصين بالإضافة إلي معاركه مع حلفائه سواء حول اتفاق المكسيك وأمريكا وكندا،أو الاتفاق الأمريكي- الآسيوي (أبيك) أو صراعه مع ألمانيا وفرنسا حول اتفاقية المناخ أو الاتفاق النووي الإيراني، أو مشروعه لعقد صفقة تاريخية حول الصراع في فلسطين، أو موقفه من حلف الناتو، وفقاً للصحيفة.
على أن أواخر أكتوبر الماضي شهدت تطوراً في تركيز إدارة ترامب على إيران وحزب الله،وذلك من خلال إقرار أربع قوانين في مجلس النواب ضد إيران وحزب الله وسترفع للإقرار في مجلس الشيوخ، ثم سيوقع عليها الرئيس الأمريكي وهي "قانون الصواريخ البالستية الإيرانية" وقانون اعتبار حزب الله بأكمله تنظيماً إرهابياً.
وهذه القوانين الأربعة تتضمن عقوبات مالية ومقاطعة، أما الجديد الآخر فيها فكونها صدرت باتفاق أعضاء الحزبين الديمقراطي والجمهوري.
هذا وسيُطالب ترامب أوروبا بالمشاركة فيها ما دامت لا تتعلق مباشرة بالاتفاق النووي الذي شكل الموقف منه نقطة صراع حادة بين إدارة ترامب وكل من بريطانيا وألمانيا وفرنسا، والاتحاد الأوروبي.
-الصين، روسيا، أوروبا
من يتابع البيان الختامي للمؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني الذي عقد في أكتوبر 2017، يتأكد من أن ميزان القوى العالمي يشهد نهوضاً قوياً وسريعاً للصين لتحتل المرتبة الأولى بين الدول الكبرى قبل منتصف القرن الواحد والعشرين، وربما أسرع من ذلك في حالة سرعة تدهور الوضع الأمريكي.
هذه النهضة التي تسعى إليها الصين تتسم بالتطور الشامل عسكرياً واقتصادياً وتكنولوجياً وعلمياً، بالإضافة إلي تعزيز قبضة الحزب، وضمانة وحدة داخلية، لا تسمحان بالاختراق الخارجي كما حدث مع انهيار الاتحاد السوفياتي.
أما النقطة الثانية هي الإصرار على بناء نظام اشتراكي بخصائص صينية، مما يعني طريقاً ثالثاً بين الرأسمالية والاشتراكية السوفياتية وحتى الصينية بسماتها الأولى.
وذلك مع الحفاظ على المرجعية النظرية للماركسية اللينينية أفكار ماو تسي تونج ودينج تشاو بينج،مضافاً إليها "أفكار شي جين بينج" ،وقد يلعب هذا البعد دوراً مؤثراً في الفكر اليساري العالمي إذا ما حققت الصين نهضتها وتحولت إلى المرتبة الأولى بين الدول الكبرى، وهو يعني واحداً من أسلحة التحوّل إلى رقم 1 بين الدول الكبرى.
أما عن روسيا تحتل موقعاً في السياسة الدولية وموازين القوى الجديدة متفوقاً تكتيكياً على أمريكا وأوروبا اللتين وذلك بالرغم مما تمتلكانه من تفوق على روسيا في عدد من المجالات إلاّ أنهما عانتا خلال السبع سنوات الماضية حالة تراجع وارتباك في مواجهة موازين القوى الجديدة وما دار من صراعات.
ففيما تراجعت كل من أمريكا وأوروبا من حيث تأثيرهما في السياسات الدولية والإقليمية فإن روسيا تقدمت وتوسع نفوذها الفعلي والمعنوي. وازدادت أهمية سياساتها في الوضع العالمي الراهن.
إن أمريكا وأوروبا إلى جانب تراجع دورهما العالمي تواجه كل منهما معضلة داخلية ليس من السهل تخطيها.
فمشكلة أمريكا الداخلية تتمثل في ابتلائها برئيس غريب الأطوار، ومهدداً بالإرباك الدائم بسبب ما يجري من تحقيقات تتعلق بدور روسيا في الحملة الانتخابية الرئاسية الأمريكية، والتي قد تصل إلى حد العزل impeachment.
أما معضلة أوروبا الأكثر خطراً على مستقبلها فقد جاءت من انسحاب بريطانيا وتداعياته إلى جانب نمو التيارات الشعبوية اليمينية والانفصالية، ثم أضف تناقضها مع أمريكا في الحلف الأطلسي.
-في الوضع العربي- الإيراني- التركي
هذه المعادلة الدولية أدت عربياً وإسلامياً وفلسطينياً إلي انقسامات وصراعات دموية وحروب داخلية ، كما أدت إلى ما أبرز"داعش" وإلى حد أقل نسبياً في "القاعدة".
وأخذت الأوضاع في السنة الأخيرة تتجه إلى تطور الصراعات:
1- انحسار ظاهرة داعش والقاعدة،، بل اقتراب لخط النهاية الحاسمة في كل من العراق وسورية.
2- في الوقت الذي تحققت انتصارات كبيرة في سورية لإخراجها من أزمتها تدخلت أمريكا لتشكل كياناً كردياً في الشمال السوري بأحدث الأسلحة ومحمياً بالدعم الأمريكي.
3- في الوقت الذي تحققت فيه انتصارات كبيرة في العراق ضد داعش وإيصالها إلى نقطة النهاية تحرك البرزاني لإجراء استفتاء لتنفيذ خيار قرار استقلال الإقليم الكردي.
إن فشل تجربة انفصال الإقليم الكردي في العراق يعتبر إنجازاً إيجابياً لا يقل أهمية عن إنجاز القضاء على داعش بالنسبة إلى المستقبل العربي- الإسلامي، وهو يجتاز هذه المرحلة الخطيرة من تاريخه.
4- ما زالت الأوضاع الدموية في كل من ليبيا واليمن بعيدة من الوصول إلى حوار يُخرج القطرين مما يواجهانه من حرب ظالمة، خاصة في اليمن، علماً أن ثمة بوادر أخذت تلوح بإمكان البحث عن حلول من خلال الحوار والتفاهم بعيداً من الحسم العسكري والحرب.
5- اتجهت التطورات في السنة الأخيرة إلى تعزيز العلاقات الإيرانية-التركية والعلاقات الروسية- الإيرانية، والعلاقات الروسية- التركية.
فإذا ما أمكن قيام تعاون إيراني- تركي- روسي- عربي، فإن الانتقال إلى مرحلة جديدة ليس على مستوى سورية والعراق فحسب وإنما أيضاً، على مستوى الإقليم كله.
فمع هذا التعاون الرباعي لن تستطيع أمريكا بسياساتها الصهيونية، وشراكتها مع الكيان الصهيوني أن يمنعا هذا الانتقال كما لن يستطيعا تمرير مؤامرة الصفقة التاريخية التي يسعى دونالد ترامب فرضها.
الوضع الفلسطيني – الصهيوني
وقالت الصحيفة بالإضافة إلي عودة الملف الفلسطيني إلى مصر وإشرافها على خطوة أولى وهامة باتجاه المصالحة إلا أن أبعاداً أخرى شديدة الأهمية يجب أن تلحظ في قراءة وضع الكيان الصهيوني:
أ- ثمة قرار في ائتلاف حكومة نتنياهو يقضي بعدم القبول بحل الدولتين من جهة وبالمضي إلى أوسع مدى في استيطان الضفة الغربية وتهويد القدس ووضع اليد على المسجد الأقصى.
ب- تتبنى حكومة نتنياهو هذا القرار برفض حل الدولتين الذي يحول دون إجراء تسوية حتى مع محمود عباس إلى جانب استراتيجية الاستيطان.
3- إن ضعف الكيان الصهيوني في ميزان القوى يرجع أولاً لتراجع الهيمنة الأمريكية- الأوروبية وهي التي شكلت المصدر الأول لقوة الكيان الصهيوني تاريخياً.
وثانياً ضعف البنية العسكرية للجيش الصهيوني خاصة من ناحية تراجع قوته البرية التي حظيت بالهزيمة في أربع حروب كانت أولها حرب 2006 في مواجهة مقاومة حزب الله في لبنان ثم في مواجهة مقاومة حماس وحركة الجهاد في قطاع غزة في ثلاث حروب.