بملامح يكسوها الحُزن يفترشون الأرض ويلتحفون بالسماء، تنتحب النساء فى صمتِ ويجلس الأطفال جانبهم، يرمقونهم بتوجسِ وذُعر، يوزعون نظراتهم التى تحمل من الألم والحسرة ملئُ بحرًا على منازلهم التى باتت كالأنقاض.
كان هذا حال "سكان" حي روض الفرج، بعد انهيار عقارتهم الثلاثة؛ فانهارت أحلامهم، وصاروا مشردين دون مأوى أو نظرة مسؤول.
انتقلت كاميرا "أهل مصر" إلى "شارع السوق" بجزيرة بدران، الذى انهارت فيه ثلاث عقارات أمس، للتعايش مع أزمة الأهالى ومعرفة ما وصلوا إليه.
بالقرب من إحدى المبانى المُتهالكة، تجلس شيماء صابر فى أواخر العقد الثالث من العُمر بجانب طفليها، بجسدِ مُسجى تستجمع قواها فتقول: "أنا كنت برا البيت وأخويا لقيته بيقولي البيت جنبى بيقع قولتله لم الحاجات وأجري، بعد خمس دقايق لقيته بيصرخ يقولى البيت وقع على السلم ومش عارف أنزل، وخرجوه الأهالى من الشباك".
وأردفت: "أخويا فى القسم رجالتنا كلهم فى الأقسام، هو يبقى موت وخراب ديار، متاخدين شهود، لأن الشرطة بتقول أيه اللي يثبت إنكم كنتم من أهل البيت، والظابط بيقول شكلكم مش منهارين ليه يبقى إنتم مش الأهالي".
خارت قواها، وتلكز قلبها بعنف وتبكي: "عاوزين يخرجونا كلنا ميتين! دا اللي يثبتلهم إننا من سكان البيت يعني، لتُتمتم بعد أن تلاشى صوتها: "حسبى الله على رئيس الحي.. عاوز يودينا مركز الشباب ننام ببطانية، طيب دى نتغطى بيها ولا نعملها مخدة ولا نعملها سقف يضلل على جسمنا بيه؟".
تنزوى "ِشيماء" بجانب جيرانها والدموع تنهمر من مقلتيها، بصوتِ أصابه الوهن تتذكر آخر ليلة قبل سقوط منزلها؛ فكانت تستلقى بجانب والدتها وهى تطهو الطعام، وتقول لها بيتنا هذا "من المُعمرين"، سيتزوج أولادنا وسجتمع فيه أيضًا، مضيفة: "لقد تدمرت أحلامنا وليس منزلنا، فغريبُ هو القدر ما بين غفلة عينُ واحدة أصبحنا بالطرقات"، تصمت قليلًا وتعاود الحديث ناظرة لأمها: "أهو بات تراب يا أمي الآن".
يقول محمود صابر شقيق "شيماء": "إحنا بنام فى الشارع ومسؤول الحى بيقول إنه أصدر قرار إخلاء من أربع سنين، طيب إزاي وإحنا البطاقة الشخصية ووصل النور والكهرباء والميه، بيجيي باسم البيت وبرقمه وكل حاجة، متسائلا: ليه مجاش إخلى إجباري؟".
تجلس أرضًا تحتضن ابنتها التى لم تبلغ شهرًا بين ذراعيها، بصوتِ يملأ بين طياته حسرة وألمًا تصرخ "لبنى محمد": "معايا بنت عندها 20 يوم وولد وبنت كمان أروح بيهم فين؟ السقعة سكنت جسمنا من إمبارح، ومفيش مكان ننام فيه غير الأرصفة"، مضيفة: "أنا سمعت صوت طوب بيقع بفتح الباب لقيت شبورة".
وعن قرار رئيس حى روض الفرج "عبدالقادر نورى" بصرف 100 جنيه للمتضررين، تقول: "إحنا تمنا 100 جنيه هى دي قيمة البني أدم عند الحكومة، ورئيس الحي جه طل بوشه ومشي".
تنهار رضيعتها فى البكاء، فتنهار ورائها "لُبنى" وتكمل: "بيقول وزع علينا أكل وادانا ميه بجنيه طيب هما فين دول؟ إحنا مدخلش جوفنا لُقمة من امبارح، وعيالنا أكلت جسمهم السقعة، ورجالتنا قاعدين فى الشارع بيحرسونا".
واستكملت: "جارنا عريس خرجوه من تحت البيت ميت الساعة 6 الصبح وأمه فضلت ساعة تحت الأنقاض بتشاور بايدها حد يطلعها، وفى العناية المركزة بين الحياة والموت".
وواصلت بصوتِ جهورًا: "رئيس الحي جاي يشيل التراب ويمشي، مش مهم البني أدمين".
اقتربت "شهد" ابنة أحد الأهالي المتضررين لتتحدث لـ"أهل مصر" فتقول بصوتِ مجهد وملامح يغلب عليها الخوف إثر ما رأته ليلة أمس: "أنا مش بروح المدرسة، عاوزة بيتنا يرجع"، يُغالبها البكاء فتنتصر عليها بإحياء ابتسامتها وتُعاود الحديث بصوتِ منخفض:" أنا بخاف أنام لوحدي، بحضن تيته عشان أنا شوفتهم وهما بيطلعوا الناس من تحت حجر البيت".
وقال طه النجار، أحد شهود عيان عقب انهيار العقارات:" أنا كنت واقف ببلكونة بيتي لما البيت وقع، كان صدمة كبيرة والتراب ردم المنطقة لدرجة متشوفش كف إيدك، الناس جريت مرعوبة شمال ويمين مش عارفين يستخبوا فين".
وفى نفس السياق، واستطرد "مجدي إمام" الذي يقطن المنزل المجاور لأحد العقارات المنهارة: "أنا بيتي جنب البيت اللي وقع نصه، أنا من امبارح وخايف أنام، ومش هفضل مستني لما البيت يقع عليا وعلى مراتى، ورئيس الحي جاى يقول أهم حاجة الجثث تخرج".