منذ أيام و تحديدا في التاسع من ديسمبر الجاري، قال الدكتور محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف في مؤتمر نصرة القدس :إن جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية خونة و أحفاد والي عكا.
و لعل الدكتور جمعة لم يقرأ التاريخ الحقيقي للمتهم حيا و ميتاً والي عكا، و لم يعرف عنه شيئاً إلا من خلال فيلم" الناصر صلاح الدين"، للمخرج الراحل يوسف شاهين، ذلك الفيلم المليء بالأخطاء التاريخية و الزيف المتعمد للوقائع، التي أعتبرها إجراماً من هذا المخرج الراحل، الذي تجنى على والي عكا، بصفات لا تمس واقع هذا المجاهد من قريب أو بعيد، ذلك الوالي الذي كان مثالا للتضحية و الجهاد ضد حملات الصليبيين الممنهجة سياسيا على المسلمين بصفة خاصة و الشرق العربي بصفة عامة و لا علاقة لها بالدين المسيحي البتة.
فوالي عكا هذا هو بهاء الدين قراقوش، وزير السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي، محرر بيت المقدس و الأقصى الأسير، الذي يئن الأن و يرزح تحت نير و ظلم و عسف أبناء القردة و الخنازير، الصهاينة الذين لا يمُتون للدين اليهودي الحقيقي و توراة موسى عليه و على سائر الأنبياء و المرسلين الصلاة و السلام، بصلة مطلقاً.
و مما قبله الناس، عوامهم وخواصهم، ما انتشرفي مصر من جملة دارجة على الألسنة تقول: "حكم قراقوش"، و هي تقال للشخص إذا كان صاحب سلطة وحاد عن جادة الصواب و العدل إلى البغي والظلم، فهي تُقال للوزير والمدير و الخفير، بل لرب الأسرة في بيته أحياناً.
وعلى جانب آخر صوَّرت بعض المصادر قراقوش كمثال للسذاجة والبله، وحكيت عنه حكايات تشير إلى شخص أحمق وغبي ويثير الضحك، والبعض يتصور أن قراقوش شخصيَّة لا وجود لها.
لكن الحقيقة علم الله تعالى أنها غير ذلك؛ فقراقوش المهضوم حقه، كان مثالاً للعدل، والعطاء و البذل و السخاء و الجود و الكرم و النبل بلا حدود، و لعلك تدهش أيها القارئ المحترم حينما تعلم و لأول مرة أنه كان واحدًا من ثلاثة بَنَى عليهم صلاح الدين الأيوبي أركان حكمه، و قال عنه ابن إياس في (بدائع الزهور): "كان قراقوش القائم بأمور الملك، يسوس الرعية في أيامه أحسن سياسة، و أحبته الرعية و دعوا له بطول البقاء"، و قال عنه ابن خلكان في (وفيات الأعيان): "كان حَسَنَ المقاصد، جميل النية، و كان له حقوق كثيرة على السلطان و على الإسلام والمسلمين".
و أما ابن تغري بردي فقال عنه في (النجوم الزاهرة) عند ذكره للسلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي: "وكان وزيره بمصر الصاحب بهاء الدين قراقوش، صاحب الحارة المعروفة بسويقة الصاحب القديمة في الجامع الحاكمي، وكان رجلاً صالحًا غلب عليه الانقياد إلى الخير، و كان السلطان يعلم منه الفطنة و النباهة، و كان إذا سافر السلطان من مصر إلى الشام في زمان الربيع كما هي عادته كل سنة، يفوض إليه أمر البلاد، لكنه في سنة إحدى وستين وخمسمائة حكمها منفردًا من غير مشاركة؛ لوفاة ولي العهد المشارك له في ذلك، فلم يستقم له الحال، و وضعت عليه الحكايات المضحكة".
والسؤال الآن: من هو قراقوش؟
قراقوش في الأصل غلام مملوكي جيء به من أسواق النخاسة، وقد يكون من أصل تركي، وكان خصيًّا، وألحق بمماليك أسد الدين شيركوه وقتما كان يعمل هو وأخوه نجم الدين أيوب في خدمة السلطان عماد الدين زنكي بالشام، واستمر أسد الدين وأخوه نجم الدين في خدمة آل زنكي ومعهما قراقوش، الذي أسلم على يد سيِّده أسد الدين، وأصبح اسمه بهاء الدين عبد الله الأسدي، وأعتقه بعد ذلك، وصار مشهورًا بالأمير بهاء الدين قراقوش، وأصبح بعد ذلك من كبار أمراء أسد الدين شيركوه، وأيضًا من كبار قادة جيشه.
و لما أرسل نور الدين محمود قائده أسد الدين شيركوه بجيشه إلى مصر بناء على طلب العاضد، آخر الملوك العبيديين الملقبين أنفسهم بالفاطميين كذبا و افتراءً على السيدة فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه و سلم، وأتى إلى مصر بصحبة ابن أخيه صلاح الدين كان معهم قراقوش، بعد أن أصبح قائدًا عسكريًّا كبيرًا، وتداعت الأحداث بعد ذلك بموت نور الدين في دمشق، وموت الخليفة العاضد آخر الحكام العبيديين في مصر، وظهور نجم الأيوبيين، وآلت مصر و الشام لحكم السلطان صلاح الدين الأيوبي، فقد أقام صلاح الدين الأيوبي أركان حكمه على ثلاثة أشخاص، هم، الفقيه عيسى الهَكَّاري، و القاضي الفاضل، و قراقوش، و كان هؤلاء الثلاثة هم وراء تثبيت دعائم دولة صلاح الدين الجديدة، ومن بين الثلاثة برز قراقوش و تميَّز عن الجميع، فكان دوره كبيرًا في السيطرة على حالة الفوضى التي عمَّت في مصر بعد موت الخليفة العاضد و محاولة بعض رجاله الدخول في صدام مع صلاح الدين لمحاولة بقاء حكم مصر تحت ولاية العبيديين"الفاطميين" و هم الذين عُرفوا بأساتذة القصر و سيدهم جوهر السوداني.
و لكن قراقوش تمكن من السيطرة على الموقف، فقام بنقل أسرة العاضد من قصر الخلافة إلى منزل الأمير برجوان، صاحب الحارة التي تعرف باسمه حتى يومنا هذا بالقاهرة، وعزل النساء عن الرجال من أسرة العاضد، كما قام ببيع العبيد والجواري، وسيطر على ثروة القصر الفاطمي الذي كان به ثروة لم تتوفر لأي ملك من ملوك الدنيا قبل ذلك.
كيف كان وضع قراقوش في مصر؟
كانت ظروف المرحلة تفرض على صلاح الدين أن تتجه أغلب جهوده في إعداد الدولة لخوض الحرب ضد الصليبيين الذين كانوا يحتلون بيت المقدس وقتها، فتوسعت الدولة في بناء القلاع و الحصون والمنشآت العسكرية من إقامة الجسور و تمهيد الطرق، و كلها مهام ضخمة لم يجد صلاح الدين خيرًا من قراقوش ليقوم بالإشراف عليها، و كان مشهورًا بصبره و جلده وعزيمته القوية التي لا تلين، إضافةً إلى مواهبه الهندسية التي كشفت عنها أعماله، و كان أول عمل هام أنجزه قراقوش هو بناء "قلعة الجبل"، على جزء مرتفع من الأرض منفصل عن جبل المقطم بالقاهرة، وتشرف على القاهرة كلها، وكانت مقرًّا للنسر الإسلامي الذي اتخذه صلاح الدين شعارًا لدولته، و أصبحت من بعده مقرًّا للحكم في مصر، حتى نقل الخديوي إسماعيل مقر الحكم إلى قصر عابدين بالقاهرة في ستينيات القرن التاسع عشر.
ثم بناءه قلعة المقياس بجزيرة الروضة الموجودة الأن بحي المنيل بمصر القديمة بالقاهرة، ثم سور مجرى العيون الذي ينقل المياه من فم الخليج حتى القلعة، وهو عمل هندسي عظيم بكل المقاييس لما فيه من دقة وحرفية هندسية عالية كما يصفه أصحاب الخبرة الهندسية و أكاديمي التخصص، ثم شرع في بناء سور عظيم يحيط بالقاهرة والجيزة، لكنه مات قبل أن يتمه، وكان قد حشد له آلاف الأسرى من الصليبيين وغيرهم من عامَّة الشعب، الذين قاموا بتقطيع أحجاره من صحراء الهرم، ويعتبر هذا العمل الضخم هو أحد أسباب كراهية العامَّة لقراقوش، الذين أحسوا بمرارة السخرة خلال هذا العمل الضخم.
و لكن ما نرمي إليه الأن من مقالنا هذا هو أن قراقوش كان ذو دور هام و بارز و عظيم في الشام لا يقل أهمية بل يزيد عن الذي قام به في مصر، و بالتحديد في عكا، و هي محور حديثنا و تبرئة ذلك المجاهد من الغبن التاريخي الذي وقع عليه حياً و ميتاً و هو من ذلك براء، حتى إنك لترى كما أسلفنا في بداية المقال أن وزيراً في حكومتنا يظلمه، متهماً إياه ضمنياً و ظاهرياً بالخيانة، و هوالذي يفترض فيه الإطلاع الواسع بحكم دراسته الأكاديمية الأزهرية و كون أنه وزيراً للأوقاف، تلك الوزارة المرتبطة في تاريخها بحركة الجهاد الإسلامي البطولي المجيد.
و هنا نذكر أنه بعد انتصار صلاح الدين على الصليبيين و نجاحه في طردهم من بيت المقدس، بعد احتلالهم إياه زهاء المائة عام، واصل الناصر زحفه حتى استولى على واحد من أهم وأكبر حصونهم في الشام، وهو حصن عكا، بعد أن دفع فيه ثمنًا غاليًا من المال والشهداء، وكان الحصن قد تحطمت منه أجزاء كثيرة أثناء المعارك، و قرر السلطان أن يترك عكا و حصنها أمانة في يد قراقوش، و يواصل زحفه لتحرير و امتلاك حصونٍ عربية أخرى كان قد احتلها الصليبيون منذ قدومهم في حملاتهم المتتابعة، و ذلك قبل أن يستيقظوا و يستردوا عافيتهم من هزيمتهم في عكا، و يحاولوا لملمة شملهم الذي تفرق و تجميع قوتهم قبل أن يأتيهم المدد من ملوك أوروبا، و في هذه الأثناء ظل قراقوش حارسًا للمدينة مع حامية صغيرة، و واصل الليل بالنهار يبني و يرمم ما تهدَّم من سور المدينة و حصنها، و استمر على هذا العمل بهمةٍ و عزيمة عاليتين.
ثم تفاجأ بواقع أليم و هو حصار الصليبيين لعكا، و هو ما لم يكن في حسبانه، فالصليبيون الذين أجلاهم سلطان مصر و الشام صلاح الدين عن القدس و هزمهم بعد ذلك في عكا، جمعوا شتاتهم الذي كان قد تفرق في حصن آخر، ثم حاصروا عكا و واجههم قراقوش و جنوده و استمر الحصار عامين و لكنهم في النهاية استسلموا و وقعوا في الأسر و فيهم أميرهم قراقوش، الذي لم يفر لينجوا بنفسه، بل بقي معهم حتى عقد السلطان الناصر صلحاً مع الصليبيين و افتدى الأسرى و كان منهم قراقوش، ذلك الذي يجهل عنه وزير الأوقاف، و أود أن أنبه هنا إلى أنني لا يعنيني هجوم الوزير على الإخوان مطلقاً، و هو ما لم أتناوله هنا و إنما تناولت تخوينه لوالي عكا بهاء الدين قراقوش البطل المجاهد وزير السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي، أو الممثل الراحل "توفيق الدقن" كما يعرفه الوزير .