تُعلق بقايا ستارُ مهترئ بالسورالحديدى المُجاور لإحدى محطات المترو تُسدله أرضًا، تُلقى وراءه بكرتونة وغطاء أكله التراب منذُ زمنِ، مُمتلئ بالثقوب من كل جانب-لا يُدفئ عصفور صغير-، تستلقى بجسدِ مُسجى، تَمد يدها اليُمنى تحتضنُ ابنتها وحفيدتها وتغلق عليهما بيدها اليُسرى، تُغمضُ جفنًا واحدًا ويسهر الأخرعليهن غير مُطمئن."كريمة إبراهيم" فى العقد الرابع من العُمر، لم يظلل جسدها سقفا منذُ ثلاثون عامًا، فاتخذت بجانب سور محطة "المعادى" مأوى لها."أم حسن" تتدثرُ بعباءة سوداء يغرق بها جسدها النحيل، تسجن البكاء بمُقلتيها القُرمزتين وتقول بصوتِ متهدج أوتاره:" أنا من قرية المنوات بالجيزة، اتجوزت وأنا عندى عشر سنين من راجلِ يكبرنى بأربعين ِسنة، أجبرت على الزواج منه، اتقفل علينا باب واحد، ومن الليلة دى والعتمة حلًت بطريقى واختفى النور".كان زوج كريمة مُغرمًا بالنساء، ما بين عشية وضُحاها لابد أن يُدنس البيت بإمرأة مُختلفة، يتعاطى المخدرات بأنواعها، صرخت بوجهه مرارًا، فكان يُلقنها درسًا لا يُنسى، "كنت بجرى أحضن مخدة وأكتم نفسى فيها وأعيط عشان ميطلعش صوتى فيموتنى، لحد ما رمانى بالشارع".يُحاول الدمع الهرب، فتبتلعه في عيونها من جديد، تستجمع قواها وتُكمل: "لم يعدُ لى مكان أختبيء فيه، لم يفتح لى من أخوتى وأقاربى بابًا، وشُرد أطفالي السبعة بين الملاجيء، "أنا خلفت 10 عيال اتنين ماتو ومعايا منى واتنين في الملجىء والباقي مش عارفة راح فين خدتهم الدنيا مني ومش عارفة عايشين ولا ميتين". شيئ من الحُزن تسرب إلى عينيها بعد ذكرها أولادها:"اتنين من ولادي بدار أيتام ومعايا شهادات الميلاد بتاعتهم، مش بيرضوا يخلونى أشوفهم ولا مرة، نفسى أطُل على ملامحهم كدا وأشم ريحتهم بحُضنى".تلاشى صوتها، وهربت الدموع التى تتصارع الهرب على وجنتيها لتنهار قواها وتصرخ:" أنا على الرصيف دا من 30 سنة، مضللش علي سقف، ولا لمس ضهرى سرير، ولا اتقفل علي باب، بغمض بعين واحدة كُل ليلة، سكن جسمى التلج وحرقت روحى الشمس، وعدى علي الموت ألف مرة، معرفش طعم البيت دا إيه". "عملت بالمنازل وتجارة الطيور، وجمع القمامة، وتنظيف السيارات، لأجل أكسب قرش حلال من شقوق إيدى وعرق جبينى".تنهض كريمة مع خيوط الشمس الأولى فى الصباح لا يعتريها أى خمول، تُشعل الحطب، على أن يبعث بجسدها القليل من الدفئ، وتسيرُ فتدك الأرض دكًا بصوتها الجهور،ترمُق الجميع بحدة نظرتها فيحل بالمكان صمت القبور، لتعاود تهمس بصوتِ مُنخفض "لابد أكون راجل، وأى خوف أبلعه وأدفنه جوايا وميظهرش بعينى عشان ميطمعوش فيا".أحضرت بعض الخضروات، وبقايا جلود لحومِ لتضعها بأوعية أكلها الصدأ لطهى وجبة الغداء، تميل برأسها تُتشكو ظُلم رئيس حى المعادى وتقول: "أنا روحت ليه لما رجلى اتكسرت مبيردش علي، والبلدية أخدت فرشتى والبطاطين، وقالولى إمشى من هنا، بيعملوا ليا قضايا تسول وبيكسروا بضاعتى". خارت قواها، وجلست تنتحب فى البكاء: "اشتغلًهم خدامة ليل نهار، بس يدونى سكن استرعرضى وعرض عيالى من الشارع وأذاه، تحتضن حفيدتها "جومانة" التى تبلغ من العُمر عامين وبصوتِ أصابه الوهن: "نفسى تكبر فى دار، مش عاوزاها تدوق المرارة إل فى جوفى، مالهاش ذنب". على الرغم من ضيق رزقها، وأموالها البسيطة وطعامها القليل، إلا أنها رُزقت بروحِ لا تعرف الشًح، تٌبسط يداها لكل محتاج، وتبادر بالمساعدة دون حديثُ أحد إليها، وتُغدق على السائل إذا طلب، حتى قال عنها أحد القاطنين بالمنطقة " أُم حسن..اتعودنا على وجودها،هى مصدر الأمان لينا". تُنادى على ابنتها "مُنى" وتهمس فى أذنها ببُطئ" والنبى خُدى طبق الرُز دا إديه للراجل ال بيبع المناديل هناك، تلاقى الجوع قرص معدته،فترمقها بنظرة امتعاض، وتُتمتم: هو إحنا لايقين ناكل ياما ".أم حسن تابعت الحديث وهى تُحيي ابتسامتها على ثغرها:"بس يا ست هانم، دى حياتى من أول طلوع الشمس لحد الليل ما يجى وأنام من التعب والتفكير، وبروح محطة المترو للحمام، وبحمى بنتى فى "جردل " هنا ورا الستارة، ولما بحب أغير هدومى بستنى لما الدنيا تعتم وأدارى نفسى ورا الخشبة وبغير، وفى الشتا، بنغطى الستارة بمشمع، ونلف حوالينا كراتين، وأهو "وربنا بيدفينا برحمته".